10 نوفمبر 2024
إعلامٌ بالحدث أم إعدامٌ له؟
في غارب الأيام، نظّمت في دمشق، بالتعاون مع بعثة الاتحاد الأوروبي، أمسية حوارية عن صورة سورية في الإعلام الأوروبي. حينذاك، كانت هناك فجوةٌ ضئيلةٌ في جدار المنع والتقييد على التعبير في إطار ما سمي حينذاك ربيع دمشق الموؤود. وحتى هذا النشاط، الذي تم بإعلامٍ مسبقٍ للجهات "المعنية"، فقد جوبه بمحاولةٍ فاشلةٍ من وزير الإعلام صبيحة يوم اللقاء لمنعه، إلى أن تدخل رئيس البعثة للمحافظة على انعقاده، مستغلاً العلاقات "الودية" التي كانت تجمع رئيس الاتحاد الأوروبي حينذاك رومانو برودي بسلطات دمشق.
شارك في اللقاء صحافيون فرنسيون، وحضره عدد لا بأس به من المهتمين، كما حضرته القناة الفرنسية للتلفزة السورية. وطلبت المذيعة قبل اللقاء أن نتحدث إلى الكاميرا بصيغة الماضي، أي نتطرّق إلى ما سنبحثه في الحوار، وكأنه قد جرى، وبرّرت ذلك باستعجالها وضرورة مغادرتها قبل انتهاء الحديث. وبالتالي، علينا أن نكون ممثلين هواة على تلفزة الحكومة. وأوردت الكثير من غث السؤال، إلى أن وصلت إلى زبدة الحديث، متوجهة إلى أحد الصحافيين بالتالي: كيف يُصوّر الإعلام الفرنسي سورية؟ وتداركاً مني لتخريب الجلسة، قبل أن تنطلق إن هو تطرّق براحة إلى الجواب، أومأت إليه أن يكون سطحي الجواب، فكان لي ما طلبت، وقال لها ما نسمعه كل حين عن موزاييك الحضارات وتآخي الأديان وثراء الأوابد وجمال الطبيعة. فنطرت السيدة المذيعة إلى الأسئلة المعدّة لها سابقاً من فرع التحقيق في التلفزة الوطنية، لتتابع: وكيف يمكن العمل على تغيير هذه الصورة؟
أداءٌ إعلاميٌ رسمي لم ينقطع العمل به، منذ فجر التسلطية في سورية، حيث الأسئلة مُعدّة ولا حاجة لذكاء الصحافي أو تحليله إلا في ما ندر. فهل تغيّر هذا الأمر من خلال التجارب الإعلامية الجديدة التي انبثقت على هامش الثورة السورية، قبل تحولها إلى مقتلة شاملة؟
الصورة العامة مبشّرة من حيث العدد والتنوّع والتخصص. كما يبدو أن تركيزاً مفيداً كان لفترة لا بأس بها من الجهات المانحة على تدريب جيلٍ جديدٍ من الإعلاميين الشباب. وتميّز السوريون بظاهرة قديمة/ جديدة عبر الصحافي/ المواطن. أما من ناحية النتيجة، فيظلّ الأمر ضبابياً وغير محسوم التحليل أو التقييم، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه يتمحور حول نجاح
الإعلام "الجديد" بالتخلّص من أمراض الإعلام التقليدي وعلله وتشوهاته، من حيث التبعية والخضوع، ومن حيث المهنية والتجرّد، ومن حيث السعي إلى الإعلام، وليس للإعلان وللترويج. والجواب المتاح حتى الآن مشوبٌ بالضبابية، خصوصاً في ما يتعلق بـ "نجوم" هذا الإعلام الجديد الذين استطاعوا أن يجذبوا إليهم متابعين كثيرين لما تحمله أقوالهم وكتاباتهم أو ظهورهم التلفزيوني، من حماسة واستقطاب وإقصاء وإلغاء وأحكام قطعية وتكفيرات مبطنة وتخوينات معلنة. نعم، يكاد يكون الأمر كذلك في ساحات إعلامية مستجدة كثيرة. كما تمكن ملاحظة غياب المهنية، وبل حتى الخوف منها، وكأنها وصمة عار يمكن أن يُنتقد على أساسها ممارسها أو ملتزمها.
صار الحديث سهلاً عن الإعلام "الثوري" وإعلام "الثورة"، في ابتعادٍ صريحٍ عن فهم حمولة هذه التعابير البرّاقة. ولمن يحاول أن يمارس عمله الإعلامي بعيداً عن الكليشيهات وعن الهويات القاتلة، فسيصير مصيره الانتقاد الحاد في أحسن الحالات، والنعت بمختلف صفات الخيانة والضلالة في أسوأها.
في بحث السوريين عن التحرّر من التسلط ومن الاستبداد، يكاد طريق بعضهم ينحرف ليخرج من استبدادٍ إلى استبداد، وإنْ لم يكن بالسطوة والقهر نفسيهما، إلا أنه استبداد المجموعات المسلحة أو الكتل السياسية أو أصحاب المقدرة المالية. وفي طريق الحرية، تعتبر المحطات القهرية من أسوأ ما يمكن للمرء أن يعبر به. ولا ينفع التحجّج بثوريةٍ وسيلة إعلامية ما، ليحميها من مسؤولية التأثير على رأي عام واسع، إن هي رغبت فعلا، ليس مُكتسباً بمجمله إلى ما يظن بعض "الثوريين" بأنه المناخ العام الذي يتلاءم مع قناعاتهم وممارساته، فإن أُقصي الآخر من العمل الإعلامي، مهما كان هذا الآخر، لن يبقى من الإعلام إلا صبغته التحشيدية والتعبوية، وسيصير مثل إعلام الأحزاب المستبدة، ساعياً إلى تجميل صورة من خلفه، والتطبيل لبطولات ـ حقيقية أو وهمية ـ لمن يدعمه أو يسيطر عليه.
فهل على الإعلام "الحر" أن يُغيّب أخباراً يعتقد بأنها ستضر بسمعةٍ، أو بوضعٍ، أو بمستقبل من هو أصلاً يؤمن بقضيتهم؟ وهل إن استعرض الإعلام "الحر" أحداثاً بعينها لم تجر في منطقةٍ يرضى عنها الخط المهيمن على المعارضة الثورية، فهو يكون إذا غير جديرٍ بالثقة أو بالمتابعة من جمهور الثورة "العريض"؟ وهل يُسمحُ للإعلام "الحر" بأن يُمارس التخوين أو التكفير أو التحريض أو إلى غير ذلك من السلبيات الدعوية، إن تلطّى فقط بأنه إعلامٌ ثوريٌ؟
لا إعلام ثوري ولا إعلام ثورة، إنها مصطلحات خشبية، إن وجدت، فتوجد فقط في أجهزة التعبئة المعنوية للأحزاب العقائدية. هناك إعلامٌ حرٌّ نسبياً أو غير حرٍّ بالمطلق.
شارك في اللقاء صحافيون فرنسيون، وحضره عدد لا بأس به من المهتمين، كما حضرته القناة الفرنسية للتلفزة السورية. وطلبت المذيعة قبل اللقاء أن نتحدث إلى الكاميرا بصيغة الماضي، أي نتطرّق إلى ما سنبحثه في الحوار، وكأنه قد جرى، وبرّرت ذلك باستعجالها وضرورة مغادرتها قبل انتهاء الحديث. وبالتالي، علينا أن نكون ممثلين هواة على تلفزة الحكومة. وأوردت الكثير من غث السؤال، إلى أن وصلت إلى زبدة الحديث، متوجهة إلى أحد الصحافيين بالتالي: كيف يُصوّر الإعلام الفرنسي سورية؟ وتداركاً مني لتخريب الجلسة، قبل أن تنطلق إن هو تطرّق براحة إلى الجواب، أومأت إليه أن يكون سطحي الجواب، فكان لي ما طلبت، وقال لها ما نسمعه كل حين عن موزاييك الحضارات وتآخي الأديان وثراء الأوابد وجمال الطبيعة. فنطرت السيدة المذيعة إلى الأسئلة المعدّة لها سابقاً من فرع التحقيق في التلفزة الوطنية، لتتابع: وكيف يمكن العمل على تغيير هذه الصورة؟
أداءٌ إعلاميٌ رسمي لم ينقطع العمل به، منذ فجر التسلطية في سورية، حيث الأسئلة مُعدّة ولا حاجة لذكاء الصحافي أو تحليله إلا في ما ندر. فهل تغيّر هذا الأمر من خلال التجارب الإعلامية الجديدة التي انبثقت على هامش الثورة السورية، قبل تحولها إلى مقتلة شاملة؟
الصورة العامة مبشّرة من حيث العدد والتنوّع والتخصص. كما يبدو أن تركيزاً مفيداً كان لفترة لا بأس بها من الجهات المانحة على تدريب جيلٍ جديدٍ من الإعلاميين الشباب. وتميّز السوريون بظاهرة قديمة/ جديدة عبر الصحافي/ المواطن. أما من ناحية النتيجة، فيظلّ الأمر ضبابياً وغير محسوم التحليل أو التقييم، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه يتمحور حول نجاح
صار الحديث سهلاً عن الإعلام "الثوري" وإعلام "الثورة"، في ابتعادٍ صريحٍ عن فهم حمولة هذه التعابير البرّاقة. ولمن يحاول أن يمارس عمله الإعلامي بعيداً عن الكليشيهات وعن الهويات القاتلة، فسيصير مصيره الانتقاد الحاد في أحسن الحالات، والنعت بمختلف صفات الخيانة والضلالة في أسوأها.
في بحث السوريين عن التحرّر من التسلط ومن الاستبداد، يكاد طريق بعضهم ينحرف ليخرج من استبدادٍ إلى استبداد، وإنْ لم يكن بالسطوة والقهر نفسيهما، إلا أنه استبداد المجموعات المسلحة أو الكتل السياسية أو أصحاب المقدرة المالية. وفي طريق الحرية، تعتبر المحطات القهرية من أسوأ ما يمكن للمرء أن يعبر به. ولا ينفع التحجّج بثوريةٍ وسيلة إعلامية ما، ليحميها من مسؤولية التأثير على رأي عام واسع، إن هي رغبت فعلا، ليس مُكتسباً بمجمله إلى ما يظن بعض "الثوريين" بأنه المناخ العام الذي يتلاءم مع قناعاتهم وممارساته، فإن أُقصي الآخر من العمل الإعلامي، مهما كان هذا الآخر، لن يبقى من الإعلام إلا صبغته التحشيدية والتعبوية، وسيصير مثل إعلام الأحزاب المستبدة، ساعياً إلى تجميل صورة من خلفه، والتطبيل لبطولات ـ حقيقية أو وهمية ـ لمن يدعمه أو يسيطر عليه.
فهل على الإعلام "الحر" أن يُغيّب أخباراً يعتقد بأنها ستضر بسمعةٍ، أو بوضعٍ، أو بمستقبل من هو أصلاً يؤمن بقضيتهم؟ وهل إن استعرض الإعلام "الحر" أحداثاً بعينها لم تجر في منطقةٍ يرضى عنها الخط المهيمن على المعارضة الثورية، فهو يكون إذا غير جديرٍ بالثقة أو بالمتابعة من جمهور الثورة "العريض"؟ وهل يُسمحُ للإعلام "الحر" بأن يُمارس التخوين أو التكفير أو التحريض أو إلى غير ذلك من السلبيات الدعوية، إن تلطّى فقط بأنه إعلامٌ ثوريٌ؟
لا إعلام ثوري ولا إعلام ثورة، إنها مصطلحات خشبية، إن وجدت، فتوجد فقط في أجهزة التعبئة المعنوية للأحزاب العقائدية. هناك إعلامٌ حرٌّ نسبياً أو غير حرٍّ بالمطلق.