إنقاذ لبنانية من الموت في مطار هيثرو

20 أكتوبر 2014
مطار هيثرو في العاصمة البريطانية (Getty)
+ الخط -
هبطت الطائرة، وتنفّست الصعداء. كانت تشعر بإرهاق شديد. جلّ ما تمنّته الخروج من تلك الغرفة الضيّقة السابحة في السماء. إنّها المرّة الأولى التي تسافر. هي التي لم ترغب يوماً بمغادرة أرض لبنان، وطنها وقريتها الهادئة. بيد أنّ غياب ابنها في بلاد بعيدة، أجبرها على الرضوخ لفكرة الطيران إلى كندا، حيث يقيم ولدها مع عائلته. فشوقها له دفعها إلى تعريض حياتها للخطر.

كغالبية نساء جيلها، تعاني جميلة من أمراض السكّري والضغط وغيرها. سارت في ممرّات مطار هيثرو في العاصمة البريطانية لندن، بتثاقل. كانت تشعر بدوار، وبحثت عن كرسي تركن إليه، كي لا تفقد توازنها وتسقط أرضاً.

كان عليها أن تمضي ساعات في مطار هيثرو، قبل الإقلاع مجدّداً إلى كندا، على متن طيران الخطوط البريطانية. مرّ أمامها الكثير من موظفي المطار الذين حاولت التحدّث إليهم بلهجتها اللبنانية، غير أنّ أحداً لم يفهم ما تقوله.

كانت ترتجف في مكانها، وذلك بسبب هبوط السكّري في دمها. هي التي نسيت أن تشتري حلويات أو عصائر، وعجزت عن العثور على الدواء. أحسّت بالضياع، وبات مشهد الأشخاص الذين يمرّون أمامها ضبابياً.

كانت ليلى، الموظفّة اللبنانية، بعيدة عنها أمتاراً قليلة، غير أنّها لم تنتبه إلى معاناة تلك المرأة، التي كانت تنازع، من دون أن يعلم بها أحد.

غير أنّ الأقدار شاءت أن يقترب أحد الزملاء من ليلى، ليخبرها بوجود امرأة على الجهة اليمنى من القاعة قائلاً: "يبدو أنّها من بلادك وهي لا تتحدّث الإنجليزية، أظن أنّها ليست على ما يرام".

كانت ليلى (37 عاماً) حديثة العهد بوظيفتها، ولم تعتَد بعد على هذه الأمور. هرعت نحو المرأة، التي ما إن سمعت أحداً ينطق بلهجتها، حتّى أجهشت بالبكاء، وطلبت منها أن تنجدها: "دخيلك يا بنتي، عم بموت ساعديني". 

ارتبكت ليلى لبرهة، ثمّ حاولت الاستفسار عن وضع جميلة ورحلتها، كي تتمكّن من الاتصال بمكتب الطيران المسؤول عن سلامتها.

بعد ذلك اتصلت ليلى بمكتب الخطوط البريطانية، وطلبت إليهم التدخّل السريع لإنقاذ المرأة. كان تعاطف ليلى إنسانياً أولاً ولبنانياً ثانياً. إذ تخيّلت والدها الذي يجهل اللغة الإنكليزية في موقف مماثل. وما هي إلاّ دقائق حتّى أقبلت إحدى الموظفات يرافقها آخر من الخطوط البريطانية. كانت الموظّفة وهي تتباطأ بمشيتها، غير آبهة بحال المرأة الخطير. بيد أنّ ليلى كادت أن تفقد أعصابها، وجرت نحو الفتاة، وأبلغتها أنّ المرأة بحاجة إلى طبيب.

ردّت الفتاة ببرود مفتعل، طالبة من ليلى أن تبتعد عن المكان كونها تخطّت نطاق عملها، ولا علاقة لها بمسؤولية مكتب الطيران. كانت الفتاة لبنانية أيضاً، وراحت تترجم حديث ليلى مع المرأة على مزاجها إلى زميلها.

قالت جميلة: "خبريهم إنّو ما بدّي كمّل رحلتي على كندا، بدّي إرجع على لبنان، لأن حاسّي إني مش قادرة، وطلبيلي حكيم الله يخلليكي".

غير أنّ الفتاة، بدّلت الحديث أثناء الترجمة وحوّرته. فقالت لهم إنّ ليلى أقنعت المرأة بإلغاء رحلتها، وأضافت: "لا أعتقد أنّ المراة بحاجة إلى طبيب".

كانت جميلة تراقب، من دون أن تفهم كلمة ممّا يجري، وسألت ليلى كي تشرح لها.

هنا اغرورقت عينا ليلى بالدموع، وقالت لها: "ينبغي عليّ أن أرحل الآن وسيتولّون هم العناية بك، ستكونين على ما يرام".

غير أنّ جميلة صرخت مستنجدة: "لا تتركيني. هودي ما بيفهمو عليّي، إذا رحتي أنا رح موت، أنا بعرف شو حاسّي".

طلبت ليلى من الفتاة، مجدّداً، إحضار الطبيب، وسألتها أن تتحدّث إلى المرأة باللبنانية. بيد أنّ الفتاة أومأت إلى ليلى بإشارة من يدها تعني أنّها يجب أن تترك المكان.

نظرت ليلى إلى المرأة، ولم يطاوعها قلبها على الرحيل، حتّى لو خسرت وظيفتها. لن تتخلّى عن جميلة. رفضت الرحيل، ولم تتمالك دموعها، التي انهمرت بغزارة، وقالت: "أحضروا الطبيب فوراً، وإلاً سأحمّلكم مسؤولية حياة هذه المرأة".

أجابت، الفتاة: "ماذا لو حضر الطبيب، وتبيّن أنّها بخير، ماذا سنقول له؟". 

ردّت ليلى: "أنا سأتحمّل تبعات ما يجري".

وصل الطبيب، وبعد معاينة جميلة، طلب نقلها فوراً إلى أقرب مستشفى، كونها تعاني هبوطا حادا في السكّري.

لم تنته مهمّة ليلى عند هذا الحدّ، بل وعدت المرأة أن تلحق بها إلى المستشفى.

غادرت ليلى عملها باكراً، وقادت سيارتها باتجاه المستشفى، وهناك بدأت قصّة أخرى. اطمأنت إلى حال جميلة، وبعدها أعلمها الطبيب أنّها بخير. قال لها أنّه يتوجّب أن تغادر جميلة المستشفى، كي يتسنّى لمريض آخر أن يأخذ مكانها.

شرحت ليلى للطبيب وضع المرأة، وأخبرته أنّ طيارتها ستقلع في الصباح الباكر إلى لبنان، لأنّها ألغت رحلتها إلى كندا، ولا مكان تقضي فيه الليل.

أجابها: "المستشفى ليست فندقاً، عليها أن تغادر خلال ساعة". وقفت ليلى حائرة. ماذا تقول لتلك المرأة المسكينة التي عانت الأمرّين في رحلة أملت خلالها أن تلتقي بولدها، فوجدت نفسها في مستشفى ببلد غريب.

لمحت جميلة الحزن في عيني ليلى، وقالت: "أنا صرت منيحة، يا بنتي، الله يكتّر من أمثالك، لو ما وقِفتَ جنبي كنت متت".

حاولت ليلى أن تخبرها بطريقة ما أنّها لا تستطيع البقاء مستلقية على سرير المستشفى، لترتاح من عناء يوم طويل، بل ينبغي عليها أن تعود إلى المطار، لتجلس على مقاعد الانتظار حتّى الصباح، أو أن تستأجر غرفة في فندق.

غير أنّ إنسانيّة ليلى منعتها من التفوّه بتلك الكلمات، وعرضت على المرأة أن تبيت الليلة في منزلها. هي التي لم تلتقِ بها بتاتاً قبل اليوم. فسُرَّت جميلة لسماع الدعوة، لأنّها أرادت أن تبقى قريبة من شخص يفهم لغتها. وكان أن تناولت العشاء مع عائلة ليلى، التي رحّبت بالمرأة.

في الصباح الباكر أوصلت ليلى المرأة إلى المطار. وما هي إلاّ ساعات حتّى انهالت الاتصالات الهاتفية، من أبناء وبنات جميلة، يتشكّرون ليلى على إنقاذ حياة والدتهم من الموت في مطار هيثرو.

المساهمون