بعد سلسلة الانقلابات التي اجتاحت البلدان العربية المستقلة حديثاً، سيطرت على الجمهوريات الأحزاب الراديكالية المظفّرة. الزمن لم يَطُل، عندما ظهر أن الواجهة للأحزاب، بينما الحاكم الفعلي نظام من الأجهزة الأمنية.
ولكي تنعم البلدان بالاستقرار جرى احتكار السياسة، وتُرك للشبيبة المشاغبة من طلاب المدارس والجامعات تعزيز السلوك الأخلاقي كسياسة مهادنة لا ترقى إليها الشكوك. الهدف من الإلحاح على الأخلاق، أنها أيديولوجية منزوعة الأظافر، طالما أنها تعتمد التآخي والقناعة، وتشكو من الشعور بالذنب جراء التقصير في التمسك بالخصال الحميدة.
من دون سياسة، طفت الشبيبة العربية في فراغ. مع ظهور الأحلاف، تأثرت بمجريات الصراع الدولي بين الاشتراكية والإمبريالية. لكن مع ترسّخ انقسام العالم، أطلقت الشبيبة الأوروبية شعار السياسة هي الثورة، وكان "ليسقط أفيون الأخلاق ولتحيا الثورة".
وجدت حركة 1968 حاملاً لها في شخصيات كاريزمية تستند إلى تاريخ نضالي مرموق مثل ماو وغيفارا وكاسترو... ما وحّد النموذج الأولى بالاتّباع لدى شبّان الغرب والشرق معاً. فاعتبر غيفارا واحداً من أنبياء الثورة الذين قدموا حياتهم فداء لها، من دون مطمح إلى منصب، وبرهن خياره عن موقف جسور جمع بين العنف والتحرر، وأعاد أيضاً بسلوكه الاعتبار للأخلاق.
خشية من العودة إلى السياسة تحت غطاء أخلاقي، اعتبرت الأخلاق دعوة رجعية مشبوهة، شيمة الضعفاء لا الأقوياء صنّاع التاريخ، فجرى التشجيع على الجنس، وتنظيفه من الحب، فالحب رومانسية لا تخلو من لمسة أخلاقية. ما أحبط الكثير من الحالمين بالتغيير، باتت الثورة تمرّ من خلال الحرية الجنسية. ما أعفى الأنظمة من الاصطدام بها، فغض النظر عنها ما دامت حبيسة الفراش.
أيقونة وفرتها جائحة تحرّر الجسد في العالم، وحدّدتها بالانفلات والتحلل من العيب والحرام. فكان امتلاك الجسد ثورة غير مؤذية، مطلوبة على هذا المستوى، ما دامت مظاهرها الأكثر انفتاحاً وحيوية ثرثرات يستوعبها الأدب والفن.
سرعان ما استُنفد عالم الجنس. بدا هزيلاً رغم تضخيمه. عالم من الكبت والتخيّلات، تلك كانت أسراره. غير أن صناعة الجنس ستستغله. انحرف الاتجاه صوب البحث الأزلي عن المعنى واللامعنى في الحياة، وبدا اتجاهاً نحو الروح، وكان الأكثر أماناً، فهو لا يزيد عن تهويمات، بيد أنه التبس بالسياسة الطليقة في الفضاء، الهائمة على وجهها، احتضنها الدين الموفّر للمعنى في الأرض مدعوماً من السماء.
لم تكن العودة إليه بريئة، تفسيره انحاز ضد الأنظمة المخندقة بالأجهزة الأمنية، وسوف يحوّله القمع إلى غير صورته، ويصيّره دين المظلومين، وحده القادر على تصحيح الحياة. أما ما وعاه الدعاة إليه، خلال مسيرته الأخيرة نحو التغيير المنشود، هو أنه لا يمكن مقارعة السجون والمعتقلات والدبابات إلا بالأحزمة الناسفة والانتحاريين؛ العنف بالعنف، والقتل بالقتل، والموت بالموت.
ثمة ظمأ إلى العدالة، ولئلا تلتبس الدعوة بغيرها، وتغرق في الدماء، فلتأخذ دورها؛ السياسة احتجاج، وقمعها يقود إلى الثورة.