06 نوفمبر 2024
الآن.. نرجوكم الصمت
عندما تساءلَ أحدهم: لو أعادوا لنا المقاهي من يعيد لنا الرفاق؟ يبدو أنه قد غفل تماماَ عن سؤال آخر أكثر أهمية: هل الرفاق ما زالوا يحتفظون بالود ويعاودهم الحنين؟ هل مرّوا بالمقاهي والأزقة وحيدين، وسألوها عن الرفاق الذين مرّوا معهم وتسامروا، وأمضوا الأوقات الجميلة معا، قبل أن تفرقهم دروب الحياة؟
هذا السؤال الأهم والأوجب يجعلنا نتمنّى، لو كنا من أولئك القلة من البشر الذين يمتلكون موهبة أو حاسة يطلق عليها علم النفس اسم "السايكومتري"، وهي موهبة قراءة تاريخ الأشياء الجامدة بمجرّد لمسها، ويبدو الحديث عن هذه الموهبة نوعاً من الجنون، أو حتى الخيال العلمي، فكيف تتكلم الجمادات عمّن مر بها، أو لمسها أو تروي تاريخها؟
ربما كانت الأمنية الأولى في هذا المجال بالنسبة لي أنني كلما تأملت العملات الورقية والنقدية بين يدي، تساءلت، بيني وبين نفسي، عن عدد الأيدي التي أمسكت بها وتداولتها حتى وصلت إلي. وربما استوقفتني الأوراق المتهرئة والممزّقة الأطراف أو البالية أكثر من الأوراق الجديدة اللامعة، وكذلك العملات المعدنية التي تبدو قديمة، وربما متآكلة الحواف، ومتصدّعة الجوانب. وكنت أتساءل عن تاريخ هذه القطع والأوراق، وربما سرحت بخيالي، وحاك هذا الخيال قصة حزينة عن ورقة نقدية أو قطعة معدنية، حتى وصلت إلى يدي. وبالتأكيد هناك رحلة تنقّل مرّت بها هذه الأموال، وتمنيت أن أعرف محطاتها وأسرارها. ولذلك، استهوتني الأفلام القديمة التي تتحدث عن ورقة نقدية تنتقل من يد إلى يد، وتدور حولها أحداث الفيلم ساعة ونصف الساعة أو ساعتين، وربما كانت تلك الورقة سببا لنهاية سعيدة أعدها المؤلف والمخرج ببراعة.
تخيلوا لو كان بإمكان الأثاث أن ينطق بمجرد لمسه، وكذلك الأبواب والجدران، لكي تدل الشرطة على قاتلٍ شرير، أو لص جريء، لم يترك خلفه دليلا أو أثرا. وقد تناولت رواية الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق "الآن نرجوكم الصمت" شرحا مطولا لهذه الحاسة، والتي يمتلكها سبعة من كل عشرة أشخاص، ولكن لا يعرفون ذلك، والسبب هو طغيان الحضارة الحديثة على حياتهم، مثل التلفزيون وعوادم السيارات، فكلما طغت الحضارة على الحياة، غارت تلك الموهبة أو الحاسّة، ولم يعد الإنسان قادرا على الاستفادة منها، فالشخص الذي يمتلك هذه الحاسة أو الموهبة يستطيع أن يلمس أي شيء مادي، ويستخلص منه أي معلومات، على أساس أن الجسم البشري يمتلك هالات (أكتوبلازمية)، وهذه نتركها على الأشياء التي نلمسها. وبالتالي هناك أشخاص يستطيعون استنطاق هذه الهالات، والحصول منها على معلومات وتاريخ أي شيء يتم لمسُه. تخيل أنك تلمس قلما وجدته على الأرض، فتعرف صاحبه وكيف فقده، وربما عثرت على حليةٍ من الذهب، ولكنك سوف تكتشف، بامتلاكك هذه الحاسة، أنها لامرأة مقتولة، وهناك من سيأتي صارخا، وهو القاتل بالطبع، ليؤكد ملكيته لها.
كانت هذه الحاسّة لدى الإنسان منذ قديم الزمان، فلا عجب أن يأتي شاعر جاهلي فيبكي على الأطلال، والحقيقة أنه ربما حين لمس أطلال بيت المحبوبة كأحد أوتاد خيمتها، أو حجرا في أرضها قد أخبره الوتد، أو باح له الحجر بدموعها ووفائها وإخلاصها، وما تعرّضت له من تعذيب وضغط من قبيلتها لكي تتزوج رجلا آخر، فكيف لا يقف الشاعر على الأطلال، ويفتتح بها معلقته الطويلة؟
ليتنا ما زلنا نمتلك حاسّة "السايكومتري"، وقد عني بها طبيبان شهيران، هما بوكانان ودانتون، وقرّرا أن الأجسام المعدنية خصوصاً تتمتع بكفاءة خاصة في الاحتفاظ بمعلوماتٍ عمن يلمسها. ليتنا امتلكنا هذه الحاسة، كي تخبرنا المقاعد ذات المساند المعدنية عن الرفاق الذين عادوا إلى المقاهي ولم يجدونا، ربما أخبرونا عن نميمةٍ ممن اعتقدنا أنهم أحبة. ربما أخبرونا عمن يخدعونا، ويضمرون لنا الشر والكراهية. ولكن فلنتوقف برهة، هل هناك حكمة لاندثار هذه الحاسة لدى البشر؟ وأي حاسّة سيفقدها الإنسان في المستقبل؟ تباَ لو كانت حاسّة تذوق الطعام مثلاَ!
ربما كانت الأمنية الأولى في هذا المجال بالنسبة لي أنني كلما تأملت العملات الورقية والنقدية بين يدي، تساءلت، بيني وبين نفسي، عن عدد الأيدي التي أمسكت بها وتداولتها حتى وصلت إلي. وربما استوقفتني الأوراق المتهرئة والممزّقة الأطراف أو البالية أكثر من الأوراق الجديدة اللامعة، وكذلك العملات المعدنية التي تبدو قديمة، وربما متآكلة الحواف، ومتصدّعة الجوانب. وكنت أتساءل عن تاريخ هذه القطع والأوراق، وربما سرحت بخيالي، وحاك هذا الخيال قصة حزينة عن ورقة نقدية أو قطعة معدنية، حتى وصلت إلى يدي. وبالتأكيد هناك رحلة تنقّل مرّت بها هذه الأموال، وتمنيت أن أعرف محطاتها وأسرارها. ولذلك، استهوتني الأفلام القديمة التي تتحدث عن ورقة نقدية تنتقل من يد إلى يد، وتدور حولها أحداث الفيلم ساعة ونصف الساعة أو ساعتين، وربما كانت تلك الورقة سببا لنهاية سعيدة أعدها المؤلف والمخرج ببراعة.
تخيلوا لو كان بإمكان الأثاث أن ينطق بمجرد لمسه، وكذلك الأبواب والجدران، لكي تدل الشرطة على قاتلٍ شرير، أو لص جريء، لم يترك خلفه دليلا أو أثرا. وقد تناولت رواية الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق "الآن نرجوكم الصمت" شرحا مطولا لهذه الحاسة، والتي يمتلكها سبعة من كل عشرة أشخاص، ولكن لا يعرفون ذلك، والسبب هو طغيان الحضارة الحديثة على حياتهم، مثل التلفزيون وعوادم السيارات، فكلما طغت الحضارة على الحياة، غارت تلك الموهبة أو الحاسّة، ولم يعد الإنسان قادرا على الاستفادة منها، فالشخص الذي يمتلك هذه الحاسة أو الموهبة يستطيع أن يلمس أي شيء مادي، ويستخلص منه أي معلومات، على أساس أن الجسم البشري يمتلك هالات (أكتوبلازمية)، وهذه نتركها على الأشياء التي نلمسها. وبالتالي هناك أشخاص يستطيعون استنطاق هذه الهالات، والحصول منها على معلومات وتاريخ أي شيء يتم لمسُه. تخيل أنك تلمس قلما وجدته على الأرض، فتعرف صاحبه وكيف فقده، وربما عثرت على حليةٍ من الذهب، ولكنك سوف تكتشف، بامتلاكك هذه الحاسة، أنها لامرأة مقتولة، وهناك من سيأتي صارخا، وهو القاتل بالطبع، ليؤكد ملكيته لها.
كانت هذه الحاسّة لدى الإنسان منذ قديم الزمان، فلا عجب أن يأتي شاعر جاهلي فيبكي على الأطلال، والحقيقة أنه ربما حين لمس أطلال بيت المحبوبة كأحد أوتاد خيمتها، أو حجرا في أرضها قد أخبره الوتد، أو باح له الحجر بدموعها ووفائها وإخلاصها، وما تعرّضت له من تعذيب وضغط من قبيلتها لكي تتزوج رجلا آخر، فكيف لا يقف الشاعر على الأطلال، ويفتتح بها معلقته الطويلة؟
ليتنا ما زلنا نمتلك حاسّة "السايكومتري"، وقد عني بها طبيبان شهيران، هما بوكانان ودانتون، وقرّرا أن الأجسام المعدنية خصوصاً تتمتع بكفاءة خاصة في الاحتفاظ بمعلوماتٍ عمن يلمسها. ليتنا امتلكنا هذه الحاسة، كي تخبرنا المقاعد ذات المساند المعدنية عن الرفاق الذين عادوا إلى المقاهي ولم يجدونا، ربما أخبرونا عن نميمةٍ ممن اعتقدنا أنهم أحبة. ربما أخبرونا عمن يخدعونا، ويضمرون لنا الشر والكراهية. ولكن فلنتوقف برهة، هل هناك حكمة لاندثار هذه الحاسة لدى البشر؟ وأي حاسّة سيفقدها الإنسان في المستقبل؟ تباَ لو كانت حاسّة تذوق الطعام مثلاَ!