يكاد مديح القطاع المصرفي في لبنان أن يصبح جزءاً من الماضي. فهذا القطاع حافظ على استقراره في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان إلى حد بعيد.
وعلى الرغم من أن لبنان شهد حروباً فعلية خلال السنوات الماضية، جزء منها يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على البلاد، وجزء آخر يتعلق باحتراب اللبنانيين في ما بينهم، إلا أن المصارف، وحدها من بين القطاعات الاقتصادية، استطاعت التمتع بصلابة ملحوظة.
وانطلق القطاع المصرفي اللبناني بموجودات تقل عن 3 مليارات دولار في بداية التسعينات من القرن الماضي، ونما الى 145 مليار دولار في نهاية 2012 بعد استحداث اصلاحات قانونية وبنيوية متواصلة ودمج مصرفي. وساهم القطاع بإعادة إعمار لبنان بعد حرب دامت 15 سنة (1975 حتى 1990).
وبعيداً عن تحليل هذه الصلابة ربطاً بالنمط الاقتصادي السيئ المتّبع في لبنان، فإن القطاع المصرفي اللبناني، وفق عدد من الخبراء المصرفيين والاقتصاديين، يعيش حالياً في حالة قلق فعلية.
يتحدث الخبراء عن قلق من تراكم الأزمات السياسية والأمنية وصولاً إلى الفراغ في رئاسة الجمهورية، وقلق من انعكاس هذه التراكمات على ثقة المستهلكين والمستثمرين والمؤسسات الدولية بالاقتصاد اللبناني، وقلق من تداعيات كل هذه العوامل على الثقة بالقطاع المصرفي ذاته.
التصنيفات الائتمانية
أول ما يخطر على بال أي مراقب للوضع السياسي في لبنان، هو الانعكاسات التي ستلحق بالتصنيف الائتماني لهذا البلد، خصوصاً مع اعتماده على الاستدانة المحلية (من المصارف) والخارجية، لتمويل الاستحقاقات المالية.
ويقول الخبير المصرفي نسيب غبريل لـ"العربي الجديد" إن الفراغ الرئاسي له آثار أكيدة على الاقتصاد من عدة جوانب، من جهة هناك موضوع ثقة المستثمر والمستهلك في آن معاً، والثقة التي تعاني انخفاضاً حاداً ومتواصلاً منذ العام 2011 حتى اليوم.
والاستحقاقات النيابية والحكومية والرئاسية، وفق غبريل، لا ينبغي أن تعطل عمل المؤسسات، لكون ضعف الثقة بلبنان يؤثر مباشرة على حركة النمو الاقتصادي المنخفضة أصلاً.
أما بالنسبة إلى مؤسسات التصنيف الائتماني، فيقول غبريل إنها تأخذ بالاعتبار عدة عوامل لتحديد التصنيف السيادي للبلدان، "منها الاستقرار السياسي وعمل المؤسسات وقوتها، اضافة الى نسبة العجز والدين العام والنمو وقدرة الدولة على ايجاد مصادر لتمويل نفقاتها".
ويلفت غبريل إلى أن تقارير التصنيف الأخيرة، كلها شددت على ضرورة تأمين الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، وذلك بهدف تحسين المناخ الاستثماري وبيئة الأعمال.
وأضاف "رغم ذلك، لا يشهد لبنان اصلاحات ادارية وتشريعية ولا خفضاً في العجز التجاري ولا لجم ارتفاع الدين العام". وبالتالي، يرى غبريل، أن المؤسسات الدولية تراقب الوضع اللبناني لترى تداعيات الفراغ الرئاسي على الاقتصاد.
تراجع تسليفات القطاع الخاص
يقول غبريل إن الوضع السياسي والترقب الاستهلاكي وتراجع حجم الاستثمارات الخاصة، كل هذا انعكس على التسليفات للقطاع الخاص. ويأتي ذلك، وفق غبريل في ظل غياب الاصلاحات، وعدم اقرار مشروع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ويشرح أن نسبة القروض المتعثرة بلغت 4 في المئة من اجمالي القروض المصرفية للقطاع الخاص، "وهي ضمن الحدود المقبولة ولكن اذا طالت الأزمة السياسية يمكن أن ترتفع النسبة أكثر من ذلك".
وحسب أرقام، فقد نمت التسليفات للقطاع الخاص 10% عام 2012، وبلغ التسليف للقطاع الخاص 45 مليار دولار وللقطاع العام 33 مليار دولار.
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي لويس حبيقة لـ "العربي الجديد"، إن الفراغ الرئاسي لن يؤثر على القطاع المصرفي فوراً، إلا أن استمرار هذا الفراغ لشهر أو أكثر، يمكن أن يؤدي إلى سحب عدد من الودائع المصرفية، وتراجع الاقتراض من المصارف بسبب تنامي المخاوف الاستثمارية.
وبالتالي، يقول حبيقة إن هذا الواقع سيؤدي إلى تراجع ميزانية المصارف، ما ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي ككل، خصوصاً من ناحية عدم القدرة على اقراض القطاع الخاص ولا الدولة.
نموّ مصرفي غير صحّي
المخاوف ذاتها، يعبّر عنها رئيس تجمع المؤسسات المالية في لبنان جان حنا، الذي يؤكد لـ"العربي الجديد" أن التصريحات السياسية المتشنجة أشدّ تأثيراً على الاقتصاد اللبناني من الفراغ الحكومي أو الرئاسي "لكون الخطابات المتشنجة تعزز المخاوف من الاهتزازات الأمنية".
ويرى حنا أن لبنان وقطاعاته الاقتصادية كلها، من بينها القطاع المصرفي، يعيش في خضم أزمة مستمرة "اذ لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ من الآن، إلا في حال حصول هزة أمنية داخلية، والتي يمكن أن تؤدي إلى هروب المستثمر المحلي وبعض المستثمرين الذين يعودون بخجل إلى السوق اللبنانية".
ويتحدث حنا عن البورصة اللبنانية: "عمل البورصة يقتصر على 12 أداة مالية، والتداول منذ بداية العام الجاري لا يوازي حجم التداول في أسبوع واحد في السنوات السابقة".
أما الودائع التي ارتفعت في الفترة الأخيرة بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة في الدول المجاورة، فـ"عادت وخرجت من المصارف بفعل التشدد المصرفي على مصدر الودائع، وذهبت إلى مصر، لتعود بعد تنامي الأزمة السياسية هناك إلى لبنان".
إلا أن هذه الودائع، وفق حنا، تساهم في إحداث انتفاخ في القطاع المصرفي اللبناني، لكون الأخير غير قادر على توظيفها في استثمارات طويلة الأمد، "وهذا الانتفاخ يشكل عبئاً على المصارف اللبنانية، ويؤدي إلى نمو غير صحي في القطاع".
رفع السرية المصرفية
الخبير الاقتصادي ايلي يشوعي له موقف مختلف بعض الشيء. إذ يقول لـ"العربي الجديد" إنه لا يوجد أي انعكاسات سلبية قد تطال القطاع المصرفي سوى الوضع الأمني والطلبات الأميركية لرفع السرية المصرفية.
ويشرح يشوعي أن المؤسسات الأميركية دعت المسؤولين في لبنان في أكثر من مناسبة إلى رفع السرية المصرفية، إلا أنه حتى الآن لا تجاوب مع هذه المطالب.
ويرى يشوعي أن السلطة في لبنان ليست عنصراً أساسياً في حياة اللبنانيين، إلا في بعض الإنفاق الاجتماعي والصحي.
وأضاف "السياسيون في لبنان يضعون مصلحة البلد والمواطنين في آخر سلم الأولويات، وكل شخص يهمه بناء شيء لنفسه من ثروة مادية او معنوية، إلا أن مجلس لنواب توقف عن الاجتماع لسنوات، وكذلك يشهد تشكيل الحكومة تأخيرات في كل استحقاق من هذا النوع، إلا أن اللبنانيين استمروا والاقتصاد استطاع الصمود".