الأطباء بين السيسي وكورونا وأم كلثوم
جاءت أزمة كورونا التي عرفتها مصر رسميًا في فبراير/ شباط الماضي، لتفتح جُرحًا مُجتمعيًا واسعًا تراكم منذ عشرات السنوات؛ ففي الحياة المدنية يُفترض أن مهنة الطبيب من أعلى وظائف سقف السُّلم الاجتماعي. ومن مُنتهى آمال طالب مُتفوّق أن يصير ذياك المُعالج الذي يخفف الآلام أينما حل أو ارتحل، وفي الوقت نفسه، يلقى الاحترام والترحيب والتبجيل من الجميع. وفي المقابل، يعاني ضباط الشرطة والجيش من أنهم في نهاية السُّلم التعليمي، حتى أنه كان يحدث أن مكتب التنسيق الحكومي في مصر كان يفتح أبوابه لقبول بعض دفعاتهم، حتى من دون أن يُحقق جزء منهم نسبة النجاح المعروفة أو الـ50% المُفترضة. وفي الوقت نفسه، سياق منظومة الدولة الحالي المُختل وسيطرة العسكر جعلا السطوة والسلطة للأخيرين على أعلى طوائف المجتمع إمكانات علمية، وهو ما أدى مع توسع الفيروس إلى بروز الصدام على نحو واسع.
نشرت وكالة أسوشييتد برس الأميركية من أنباء هذا الصراع تحقيقًا صحافيًا يوم 6 يونيو/ تموز الجاري، جاء فيه أن النظام العسكري القمعي المصري يعتقل ويُسكت مَنْ ينتقد إجراءات عبد الفتاح السيسي لمكافحة كورونا، وبالفعل اعتقل نظامه عشرة أطباء على الأقل، بالإضافة إلى فرضه قيودًا وإرساله تهديدات إلى موظفي قطاع الصحة بالتزام الصمت أو مواجهة العقاب، "وتوجد تسجيلات صوتية تكشف تهديد أجهزة الأمن الأطباء والتلويح بعقابهم بشدّة، إذا تغيبوا عن العمل، حتى لو شعروا بالمرض، والأجهزة الأمنية تشرف على لوائح الحضور والغياب في المستشفيات". وذكر طبيب لوكالة الأنباء العالمية أنه في كل يوم يذهب فيه إلى العمل يُضحي بنفسه وعائلته. وقال إن السلطات اعتقلت زميلًا له لمجرّد أنه أرسل رسائل إليها، قال فيها: "لا أرى ضوءًا في نهاية النفق". وفي المُقابل كان رئيس الوزراء المصري، المدني مظهرًا العسكري روحًا، مصطفى مدبولي، صرّح إن "إهمال وسوء إدارة الأطباء" الأزمة يعرّض صحة المواطنين للخطر. ولما اعترض عضو مجلس نقابة الأطباء، محمد الفوال، مطالبًا مدبولي بالاعتذار تم اعتقاله، بالإضافة إلى صيدلاني انتقد على الفضاء الأزرق نقص معدّات الحماية، بل تم اعتقال طبيبة حامل لمجرد استخدامها هاتف زميلة لها للإبلاغ عن حالاتٍ مُشتبه إصابتها بالفيروس.
كلما استفحلت الأمور عجّل النظام استدعاء "شمّاعة فشل الأطباء"، على الرغم من وفاة مائة منهم بكورونا
وتجري وقائع الاتهامات المريرة في حق الأطباء بعد تسمية النظام لهم في بداية الأزمة "الجيش الأبيض"، ربما رغبةً منه في إلحاق كل نجاح لهم في صالح العسكر، فلمّا تجاوز عدد المُصابين 76 ألفًا بينهم أكثر من ثلاثة آلاف وفاة، مقابل أكثر من 21 ألف حالة تعافٍ، وفق الأرقام الرسمية التي تعرف السلطات جيدًا أنها غير دقيقة، بحسب مجلة فورين بوليسي الأميركية، صار النظام يهدّد الذين يكشفون الحقيقة، ويُعلنون أن قرى ونُجوعًا ومُدنًا تعاني بضراوة (حفظ الله الجميع). ويبدو أن الأمور كلما استفحلت عجّل النظام استدعاء "شمّاعة فشل الأطباء"، على الرغم من وفاة مائة منهم بكورونا حتى 7 من يوليو/ تموز الجاري، فيما تعدّى عدد الطواقم الطبية التي لقيتِ الله بالفيروس نفسه تجاوز مائتين.
وفي المقابل، تتمسك الغالبية العظمى من دفعات كليات طب مارس/ آذار الماضي من مختلف أرجاء مصر، وعددها قرابة ثمانمائة طبيب، بعدم قبول التكليف، لرؤيتهم ألّا حل أمام اهتراء المنظومة الطبية في مواجهة كورونا، ويبقى حلم هؤلاء الأطباء وغيرهم في الهجرة خارج مصر ليلحقوا بـ110 آلاف طبيب مصري، بحسب إحصائيات النقابة المُختصة للعام الماضي، من إجمالي 220 ألف طبيب مسجّل بها، ما يُفاقم نسبة عجز الأطباء التي كانت تساوي عشرة أطباء لكل عشرة آلاف مواطن، فيما النسبة العالمية للأطباء تزيد على ثلاثة أضعاف الرقم، بحسب وزيرة الصحة والسكان، هالة زايد، في البرلمان في سبتمبر/ أيلول الماضي، مع العلم بأن أرقام العجز الرسمية هذه ترتفع في أزمنة الجوائح والأوبئة، مثل كورونا.
يبقى حلم الأطباء الهجرة خارج مصر ليلحقوا بـ110 آلاف طبيب مصري، بحسب إحصائيات النقابة المُختصة للعام الماضي، من 220 ألف طبيب مسجّل فيها
وطالما بقي الطبيب المصري يتقاضى نحو 120 دولارًا بعد التخرج ترتفع إلى 180 عقب الماجستير، فيما يحصل على أقل من دولار وربع الدولار بدل العدوى، فإن مصر مهدّدة بألا تجد قريبًا من يعالج أهلها، بحسب عضو مجلس نقابة الأطباء، إيهاب الطاهر. وقديمًا سألت أم كلثوم أحد عازفي فرقتها، وكان نجله تقدّم لامتحان الثانوية العامة، عن الكلية التي اختارها له، فقال لها: "نال مجموعًا كبيرًا، وأخشى من المصروفات إن ألحقته بكلية الطب أو الصيدلة أو الهندسة"، فقالتْ له على البداهة، بروح الطرفة المعروفة عنها: أدخله الكلية الحربية يتخرّج ضابطًا .. أي كلُّ هؤلاء معًا دفعة واحدة.