عندما يُرمى بهاء طاهر
جاءت وفاة الروائي (والمترجم) المصري، بهاء طاهر، الخميس 26 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري عن 87 عامًا، لتدلّ مجدّدًا على ظاهرة استشرت بين طرفٍ من البسطاء المصريين، وللأسف الإسلاميين من مواطنيه، خلال السنوات الماضية، وبدلًا من انحسارها العام عنهم، تمادت للأسف المرير، فانتقلت من حيز متابعي الشأن السياسي إلى مثقفين رفيعين.
عاش الكاتب معروفًا بالأخلاق والسمت الهادئ والتأدب مع الجميع على نحو رفيع، فمثل نموذجًا مضيئًا للروائي الذي تصدُق أفعاله إبداعه، على النقيض تمامًا من مبدعين معروفين بمغايرة مواقفهم إبداعاتهم، وإنْ كنا لا نوافق الراحل على توظيفه الشأن العام في مصر بالإبداع على نحو واضح في مرحلة من حياته في عهد المخلوع حسني مبارك تحديدًا، إلا أن الإنصاف يقتضي ذكر أن مجمل مواقفه وإبداعه يستحقان الاحتفاء والنظر، حتى إن تعلل بعضهم بأنه كان يقف حائط صد ضد حصول بعض من شباب الأدباء على الجوائز، وبالتالي احتكرها لنفسه (من وجهة نظر أولاء)، وهو الذي نالت روايته "واحة الغروب" الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الأولى 2008، وقبلها بعشر سنوات مُنح جائزة الدولة التقديرية، ثم "جائزة مبارك" (جائزة النيل لاحقًا) في 2009، وتعدّ أرفع جائزة مصرية، كما منحته وزارة الثقافة الفلسطينية درع غسّان كنفاني العام الماضي.
لا يستطيع منصفٌ مدققٌ في الشأن الثقافي المصري، والجوائز المنبثقة عنه، أن ينفي دور العلاقات العامة فيها، وهذا للأمانة أمر لا يخصّ الإبداع وحده؛ وإنما يتجاوزه إلى الشأن العام كله، من سياسي وعلمي حتى أكاديمي. كما نعتقد أنه يتجاوز الحدود المصرية عمومًا، ولكن أمرا كهذا لا ينفي أبدا، في حالة بهاء طاهر، موهبته، رحمه الله، أو تميز إبداعه. وبالتالي، من العبث اتهامه باحتكار الجوائز. وإذا كان بعضهم قد اختلف معه، فمن الممكن قبول اختلافه من قبيل التنوع وثراء الفهم، خصوصا إذا استند لأسس، وليس مجرّد اللجاج والرفض وإشهار أقوالٍ شبه جاهزة معلبة، كلما رحل إنسان أو أديب أو صحافي، بل وأيضا سياسي لم تتفق مسيرته معهم، أو ربما عارضهم أو حتى ناصبهم العداء في حياته، وهو للأمانة ما لم يفعله بهاء طاهر، واصطلت سيرته بنيران بعضهم رغم ذلك، وإلا فإن من المعروف أن كبار الفنانين، ومنهم المغنون أو المطربون، وكذلك الأكاديميون في الجامعات، وكذلك الأدباء أو النقاد، وصولًا إلى القامات الكبيرة من علماء الدين كانوا متهمين في حياتهم بوقوفهم أمام المبدعين في مجالهم، وجذبهم الأضواء إليهم واحتكارهم لها، فأصابت هذه المقولات الراحلين من أم كلثوم، مرورًا بنجيب محفوظ، وأحيانًا أحمد زويل، كما توجهت إلى فؤاد المهندس، ولم تترك متولي الشعراوي أو محمد الغزالي (رحمهما الله)، رغم أن مصر، على سبيل المثال، لم تجد قامات تعوضهم جميعًا بعد رحيلهم، وبالتالي، ثبت كذب تلك المقولة المتجدّدة المتجذرة لدى بعض غير الناجحين في تحقيق بصمة أو علامة حياتية فارقة تميّزهم في حياتهم أو بعد وفاتهم.
عاش بهاء طاهر معروفًا بالأخلاق والسمت الهادئ والتأدب مع الجميع على نحو رفيع، فمثل نموذجًا مضيئًا للروائي الذي تصدُق أفعاله إبداعه
من الطبيعي أن يتصدّى بعضهم لأديب أو إنسان مشهور معروف في أي مجال كان بالنقد والتدقيق في إبداعه، وأحيانًا مواقفه إن تعدّت حدود تعاملاته الشخصية. ولكن من الواجب مراعاة ألَّا يكون هذا في ميعة الحزن الأولى وشعور أهل الفقيد ومحبيه، بالإضافة إلى المنصفين في النظر إليه وما أبقى للحياة، فليس من التعقّل أو التديّن بمكان أن لا يرى إسلاميون مفترضون، ومن بينهم منْ تجاوز (أو تجاوزت) التسعين من العمر المديد، إبداع بهاء طاهر في حياته، ثم يوم وفاته تخرج كلمات حادّة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي بأنه "كان من كوابيس جيلي الثقافية، لو جاملناه نقول: روائي متوسط الموهبة. استجلب لنفسه جوائز كثيرة مغتصبة ممن كانوا أحق منه".
تلخص هذه التدوينة للكاتبة المصرية الإسلامية، صافيناز كاظم، مأساة قطاع ممن يقولون ما لم ينزل الله به من سلطان، وإلا فلماذا لم توجّه هذه الكلمات للراحل في حياته؟ وهل تعني وفاته سقوط جميع حقوقه القانونية والمعنوية، وتتيح إطلاق الكلمات على عمومه، وتبخيس جميع إبداعه بالجملة، من دون فحص وتدقيق واستشهاد بنصوص؟ فضلًا عن عدم تروٍ ومراعاة أحزان كثيرين عليه، فضلًا عن أن كأس الموت ليست بعيدة عن أحد من كاتب أو قارئ، وله جلالة ومهابة، كانتا أدعى للصمت حتى حين، ثم التفرّغ لدراسة الإنتاج وإعلان أن البحث والدراسة اللذين اقتضيا ساعات طويلة يعبران عن رأي.
نعاني اليوم من موجة شرسة ضد التديّن والمتدينين، وأخرى أشرس وأكثر فداحة وغباءً لدى بعض المتدينين ضد أنفسهم ممن يعتبرهم عامّة الناس نماذج للتديّن
آفة بعضنا اليوم أنهم يكرهون من دون تعقل ويحبون من دون تمهل، لتتكون "الشلل" التي تطلق السهام على فضلاء لمجرّد تخيلهم أعداء، أو كذا توهموهم، وإلا فإن بهاء طاهر لم يكن صاحب موقف في العموم المجمل معادٍ لأحد أو منحاز لآخر، ولم يتكسّب من العمل العام، بل إن مسحة التديّن العام ظاهرة في أدبه، بحسب نقاد ومتابعين كثر، نظرًا إلى أن أباه أزهري نزح إلى القاهرة من مدينة الأقصر الجنوبية، وعاش حياة أقرب إلى الفقر لكنه ربى ابنه على المبادئ وصحيح الدين، فيما لم يلتزم بهما آخرون للأسف، وإلا فما الداعي لوصف راحل بـ"الكابوس" لجيل بأكمله؟ وهو رجل مبدعٍ في الأساس أضاء بكلماته وأنار جانبًا من المجتمع، ولماذا "الشخصنة" بعد انتقاله إلى الدار الآخرة وليس في حياته؟ ومعلوم أن شرف الخصومة يقتضي مواجهة في الحياة وقدرةً على تحمّل رد الفعل، لا رمي المدافعين عن جلال الرحيل بكلماتٍ جارحة (هم الآخرون) في تدوينة لاحقة.
نعاني اليوم من موجة شرسة ضد التديّن والمتدينين، وأخرى أشرس وأكثر فداحة وغباءً لدى بعض المتدينين ضد أنفسهم ممن يعتبرهم عامّة الناس نماذج للتديّن، فيما الأخيرون يوغلون في أفعالٍ تنافي المنطق ومستقر العادات والتقاليد والأعراف، فضلًا عن الدين من الأساس، ولعل بعضهم يرى في مثل التصرّف والكلمات التي أسهبنا شروقًا لشمسه على حساب راحلٍ حاول أن يكون مجيدًا كصاحب "واحة الغروب"، بعد أن غربت شمس حياته بالفعل، وبقي إبداعه، فيما أمثال منتقديه يفقدون مصداقيتهم للأسف الشديد، ويسيئون، من حيث يريدون الإحسان، لأنفسهم. ولما يعبرون عنه وينتسبون إليه، رحمنا الله من أولاء وأفعالهم، وأكثر من عزائنا بطاهر وانتظار شروق مبدعين آخرين من أمثاله.