01 نوفمبر 2024
الاحتجاجات الكبرى في تونس ومآلاتها السياسية
لا أحد من الطبقة السياسية والنخب الفكرية، وخصوصاً من مؤرخي الزمن الحاضر، يستطيع أن يتجاهل الظاهرة الاحتجاجية الاجتماعية والسياسية والحركات الاجتماعية التي تقف وراءها، ما جعل منها موضوع اختصاص سوسيولوجي متميز، يدرّس في أقسام علم الاجتماع في الجامعات التونسية، وتنجز حوله الأطاريح والدراسات السوسيو- سياسية، وتهتم به مراكز البحوث الاستشرافية والاستراتيجية.
تعود جذور الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في تونس إلى منتصف القرن التاسع عشر مع انتفاضة علي بن غذاهم سنة 1864 ضد حكم محمد الصادق باي، وشاركت فيها أغلب القبائل التونسية في أعماق البلاد وفي سواحلها، بعد أن أُثقل كاهلها بالإتواات والضرائب والمكوس، ومع ذلك تمكنت من تعطيل العمل بدستور 1861 الذائع الصيت، بوصفه أول دستور عربي، إلا أنها لم تستطع إنهاء حكم السلالة الحسينية، ليحل مكانها قائد الانتفاضة الذي كان يلقبّ باي الشعب، كما كانت تطمح وتبشّر به أنصارها.
وفي مشهدٍ مشابه، خرجت القبائل نفسها تمردا على الحاكم ذاته حاملة السلاح هذه المرّة، لتوقيعه على اتفاقية باردو في 12 مايو/ أيار 1881 التي أدت إلى احتلال الفرنسيين تونس، تحت مسمى الحماية، واستمرت انتفاضتها المسلحة ثلاث سنوات، ولم تخمد إلا بوفاة زعيمها علي بن خليفة في البلاد الطرابلسية سنة 1884.
لكن الانتفاضات الاحتجاجية الكبرى الوازنة عرفتها تونس في ظلّ الدولة الوطنية مع حكم الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، سنتي 1978 و1984 وهو ما شكّل مفارقة حقيقية، أسالت حبرا كثيرا وتأويلات عديدة وتبادلا للتهم، حتى بعد مرور زمن طويل على اندلاعها، فالسؤال الذي لا يزال قائما ولم تنطفئ جذوته: كيف تكون الدولة وطنية، ويهبّ الشعب في وجهها في أكثر من مناسبة، فتسيل دماء وتسقط أرواح؟
نتجت الانتفاضة الأولى عن حركة عمالية عميقة، كانت تنزع نحو فكّ الارتباط بين المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يحمل إرث النضالين الوطني والنقابي الذي أدى إلى دحر الاستعمار، والدولة- الحزب، المركب الذي كان سائدا آنذاك، وهيمن على الحياة السياسية وكيّف المجتمع ثقافيا وانثروبولوجيا عقودا طويلة، وفق رؤية قادة البلاد من الدستوريين الجدد. قدّم العمال والنقابيون تضحيات كبيرة، فسقط من بينهم الشهداء في الخميس الأسود في 26 يناير/ كانون الثاني 1978 واقتيد مئات منهم إلى السجون والتعذيب والمحاكم والمعتقلات. أما الانتفاضة الثانية فقد عرفتها البلاد في 1984، عندما خرجت الجموع الغفيرة في أغلب المدن والقرى رافضة الزيادة في سعر المواد الغذائية الأساسية، وكانت النتيجة إجبار الحكومة على التراجع عن قرارتها الاقتصادية، وتثبيت أسعار الخبز كما كانت قبل الانتفاض، لكن ذلك الإجراء لم يحل دون سقوط عشرات الشهداء وامتلاء السجون والمعتقلات وتخريب المنشأة العمومية والأملاك الخاصة وتوريط المؤسسة العسكرية في قمع المتظاهرين.
لم تتوقف الانتفاضات والهبّات الاجتماعية في تونس عند حدود النصف الثاني من القرن العشرين الذي كان مشبعا وصاخبا بنتائج فعالية حركات التحرّر، وظهور التشكيلات الأيديولوجية والسياسية الجديدة بتياراتها القومية العربية واليسارية والإسلامية التي نشأت وكبرت في الوسط الطلابي، بوصفه حاضنة خصبة، وأفرزت جميعها معارضات سياسية نحت، تحت آثار قمع السلطة لها وإقصائها من المشاركة السياسية والاستفراد بالحكم، منحى عنيفا في سلوكها السياسي.
استؤنفت الحركات الاحتجاجية في ظل حكم الرئيس الأسبق المخلوع، زين العابدين بن علي، في انتفاضة عارمة، بدأت يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول في سيدي بوزيد، وانتهت يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، بهروب رئيس الدولة، والشروع في تفكيك مؤسسات نظامه من مجلسي نواب ومستشارين، وتعطيل العمل بالدستور وتغيير صبغة النظام السياسي، ليصبح برلمانيا بعد أن كان رئاسيا، ودخول المعارضات الراديكالية بأيديولوجياتها المختلفة بيت الطاعة السياسية، ليروّضوا في مؤسسات الدولة، فينزاحوا من العداء للدولة إلى معارضة السلطة وممارسة السياسة في كنف القانون. وما كان لهذا الأمر ليتحقق لولا التدرج الذي تم من الانتفاضة إلى الثورة، فوحدها الثورات تستطيع تحويل العداء للدولة إلى نقيضه، وتصنع من التنظيمات الأيديولوجية الراديكالية قوىً سياسية ناعمة وديعة.
وفي حين فشلت كل الانتفاضات والحركات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس في النصف الثاني من القرن العشرين في تحقيق أهداف سياسية عميقة، إذا ما استثنينا الأثر المحدود لوقائع 26 جانفي (يناير) 1978 النقابية وأحداث قفصة المسلحة في 27 جانفي (يناير) 1980 على انتخابات 1981 التي سرعان ما عرفت تزويرا مفضوحا من الحكم البورقيبي، فإن انتفاضة 17 ديسمبر - 14 جانفي الوحيدة التي حققت نتائج سياسية نوعية، وأتت على رأس النظام، قبل أن تأتي على مؤسساته، لتبشّر بمفاهيم ومعجم سياسي جديد، وقوى وتنظيمات تعمل وفق مقاربة ليبرالية صرفة، ما زالت تلقى الانتقادات أو التأييد، بحسب الموقع السياسي الذي يحتله كل فريق.
وعلى هذه الأرضية، تشهد المدن والقرى والأرياف التونسية احتجاجاتٍ اجتماعية كثيرة، تأخذ شكل المظاهرات والمسيرات والإضرابات والاعتصامات وإضرابات الجوع العادية والمتوحشة، الغاية من أغلبها تحقيق مطالب قطاعية، في ظل نزعات الكوربوراتيزم (التضامن الأعمى) المتنامية، وعودة النقابي ليحتلّ مكانا متقدما، حتى على حساب السياسي والأيديولوجي. ومن
أبرز الحركات الاحتجاجية التي اتسع نطاقها بسرعة، وانتشرت على شاكلة بقع الزيت، وأخمدت بصفة أسرع، الأحداث التي عرفتها البلاد في مطلعي سنتي 2016 و2018 ردّا على سياسات الائتلاف الحاكم التي أدت إلى استفحال الفقر والبطالة والجريمة، وتوقف الدولة عن الانتدابات وتوفير فرص الشغل، ناهيك عن تهاوي الدينار، وارتفاع حجم المديونية، والعجز في الميزان التجاري وانتهاك سيادة الدولة، وتثبيت الوعود الانتخابية أوهاما بشّرت بها الأحزاب الحاكمة، وهي أحداث استثمرتها قوى سياسية ما زالت تحن إلى راديكاليتها السياسية، في ظل فسح المجال أمامها للمشاركة السياسية. وفي الآن نفسه، وظفتها لوبيات وقوى سياسية وفاعلون إقليميون ومحليون لتخريب منطلقاتها الاحتجاجية السلمية والمدنية، ودعائمها الدستورية والقانونية، وحتى تغيير خارطة الحكم وفق توزيعية جديدة، ما يمنع أصحاب النيات الحسنة من المحتجين من الاستفادة من احتجاجاتهم، هذا إذا لم يقع اقتيادهم إلى السجون والمعتقلات، ومحاكمتهم بتهمة التخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، بل ومنهم من لم يغادر كرسيه أمام شاشة حاسوبه، أو لوحته الإلكترونية، مكتفيا بالتدوين الاحتجاجي الثوري، معتقدا أن ثورة أخرى في الأفق لا تحتاج أكثر من شاشة تشتغل بواسطة اللمس.
ما سلف ذكره يخلص إلى أن حركة 17 ديسمبر الاحتجاجية التي انتهت ثورة شعبية وحدها التي تمكّنت من تحقيق أهداف سياسية جذرية، بعد مرور قرن ونصف من التراكم الاحتجاجي والفعل الثوري والمعارضات السياسية الراديكالية والعمل الأيديولوجي وتأثير النخب الفكرية، والتبشير بتغيير النظام السائد، وانتشار اليوتوبيات السياسية التي كانت تجد صداها في أوساط الحركات الشبابية والاجتماعية التي لا تعرف اليأس والضمور.
تعود جذور الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في تونس إلى منتصف القرن التاسع عشر مع انتفاضة علي بن غذاهم سنة 1864 ضد حكم محمد الصادق باي، وشاركت فيها أغلب القبائل التونسية في أعماق البلاد وفي سواحلها، بعد أن أُثقل كاهلها بالإتواات والضرائب والمكوس، ومع ذلك تمكنت من تعطيل العمل بدستور 1861 الذائع الصيت، بوصفه أول دستور عربي، إلا أنها لم تستطع إنهاء حكم السلالة الحسينية، ليحل مكانها قائد الانتفاضة الذي كان يلقبّ باي الشعب، كما كانت تطمح وتبشّر به أنصارها.
وفي مشهدٍ مشابه، خرجت القبائل نفسها تمردا على الحاكم ذاته حاملة السلاح هذه المرّة، لتوقيعه على اتفاقية باردو في 12 مايو/ أيار 1881 التي أدت إلى احتلال الفرنسيين تونس، تحت مسمى الحماية، واستمرت انتفاضتها المسلحة ثلاث سنوات، ولم تخمد إلا بوفاة زعيمها علي بن خليفة في البلاد الطرابلسية سنة 1884.
لكن الانتفاضات الاحتجاجية الكبرى الوازنة عرفتها تونس في ظلّ الدولة الوطنية مع حكم الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، سنتي 1978 و1984 وهو ما شكّل مفارقة حقيقية، أسالت حبرا كثيرا وتأويلات عديدة وتبادلا للتهم، حتى بعد مرور زمن طويل على اندلاعها، فالسؤال الذي لا يزال قائما ولم تنطفئ جذوته: كيف تكون الدولة وطنية، ويهبّ الشعب في وجهها في أكثر من مناسبة، فتسيل دماء وتسقط أرواح؟
نتجت الانتفاضة الأولى عن حركة عمالية عميقة، كانت تنزع نحو فكّ الارتباط بين المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يحمل إرث النضالين الوطني والنقابي الذي أدى إلى دحر الاستعمار، والدولة- الحزب، المركب الذي كان سائدا آنذاك، وهيمن على الحياة السياسية وكيّف المجتمع ثقافيا وانثروبولوجيا عقودا طويلة، وفق رؤية قادة البلاد من الدستوريين الجدد. قدّم العمال والنقابيون تضحيات كبيرة، فسقط من بينهم الشهداء في الخميس الأسود في 26 يناير/ كانون الثاني 1978 واقتيد مئات منهم إلى السجون والتعذيب والمحاكم والمعتقلات. أما الانتفاضة الثانية فقد عرفتها البلاد في 1984، عندما خرجت الجموع الغفيرة في أغلب المدن والقرى رافضة الزيادة في سعر المواد الغذائية الأساسية، وكانت النتيجة إجبار الحكومة على التراجع عن قرارتها الاقتصادية، وتثبيت أسعار الخبز كما كانت قبل الانتفاض، لكن ذلك الإجراء لم يحل دون سقوط عشرات الشهداء وامتلاء السجون والمعتقلات وتخريب المنشأة العمومية والأملاك الخاصة وتوريط المؤسسة العسكرية في قمع المتظاهرين.
لم تتوقف الانتفاضات والهبّات الاجتماعية في تونس عند حدود النصف الثاني من القرن العشرين الذي كان مشبعا وصاخبا بنتائج فعالية حركات التحرّر، وظهور التشكيلات الأيديولوجية والسياسية الجديدة بتياراتها القومية العربية واليسارية والإسلامية التي نشأت وكبرت في الوسط الطلابي، بوصفه حاضنة خصبة، وأفرزت جميعها معارضات سياسية نحت، تحت آثار قمع السلطة لها وإقصائها من المشاركة السياسية والاستفراد بالحكم، منحى عنيفا في سلوكها السياسي.
استؤنفت الحركات الاحتجاجية في ظل حكم الرئيس الأسبق المخلوع، زين العابدين بن علي، في انتفاضة عارمة، بدأت يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول في سيدي بوزيد، وانتهت يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، بهروب رئيس الدولة، والشروع في تفكيك مؤسسات نظامه من مجلسي نواب ومستشارين، وتعطيل العمل بالدستور وتغيير صبغة النظام السياسي، ليصبح برلمانيا بعد أن كان رئاسيا، ودخول المعارضات الراديكالية بأيديولوجياتها المختلفة بيت الطاعة السياسية، ليروّضوا في مؤسسات الدولة، فينزاحوا من العداء للدولة إلى معارضة السلطة وممارسة السياسة في كنف القانون. وما كان لهذا الأمر ليتحقق لولا التدرج الذي تم من الانتفاضة إلى الثورة، فوحدها الثورات تستطيع تحويل العداء للدولة إلى نقيضه، وتصنع من التنظيمات الأيديولوجية الراديكالية قوىً سياسية ناعمة وديعة.
وفي حين فشلت كل الانتفاضات والحركات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس في النصف الثاني من القرن العشرين في تحقيق أهداف سياسية عميقة، إذا ما استثنينا الأثر المحدود لوقائع 26 جانفي (يناير) 1978 النقابية وأحداث قفصة المسلحة في 27 جانفي (يناير) 1980 على انتخابات 1981 التي سرعان ما عرفت تزويرا مفضوحا من الحكم البورقيبي، فإن انتفاضة 17 ديسمبر - 14 جانفي الوحيدة التي حققت نتائج سياسية نوعية، وأتت على رأس النظام، قبل أن تأتي على مؤسساته، لتبشّر بمفاهيم ومعجم سياسي جديد، وقوى وتنظيمات تعمل وفق مقاربة ليبرالية صرفة، ما زالت تلقى الانتقادات أو التأييد، بحسب الموقع السياسي الذي يحتله كل فريق.
وعلى هذه الأرضية، تشهد المدن والقرى والأرياف التونسية احتجاجاتٍ اجتماعية كثيرة، تأخذ شكل المظاهرات والمسيرات والإضرابات والاعتصامات وإضرابات الجوع العادية والمتوحشة، الغاية من أغلبها تحقيق مطالب قطاعية، في ظل نزعات الكوربوراتيزم (التضامن الأعمى) المتنامية، وعودة النقابي ليحتلّ مكانا متقدما، حتى على حساب السياسي والأيديولوجي. ومن
ما سلف ذكره يخلص إلى أن حركة 17 ديسمبر الاحتجاجية التي انتهت ثورة شعبية وحدها التي تمكّنت من تحقيق أهداف سياسية جذرية، بعد مرور قرن ونصف من التراكم الاحتجاجي والفعل الثوري والمعارضات السياسية الراديكالية والعمل الأيديولوجي وتأثير النخب الفكرية، والتبشير بتغيير النظام السائد، وانتشار اليوتوبيات السياسية التي كانت تجد صداها في أوساط الحركات الشبابية والاجتماعية التي لا تعرف اليأس والضمور.