أعتقد أنه لا يمكن فهم الانتفاضة الأولى بعمق إذا عزلناها عن التطوّرات في الأراضي المحتلة في السنوات السابقة للانتفاضة، وبشكل خاصّ من أواسط السبعينيات وحتى سنة 1987.
سنواتٌ بُذلت خلالها جهودٌ هائلة في بناء التنظيمات الجماهيرية المختلفة من نقابات ولجان العمل التطوعي ولجان الشباب ومنظمات نسائية.. إلخ، ثم جاءت الهبّات الوطنية التي حصلت في مناسبات مختلفة فكانت، حين ننظر إليها من موقع اليوم، أشبه ما تكون ببروفات للانتفاضة.
في هذه السنوات، أُخذت دروسٌ وعبر حول عملية البناء الثورية. وبالتالي، نستطيع القول إن المسرح بات جاهزاً تماماً في نهايات عام 1987 من أجل بدء الانتفاضة. مسّت التنظيمات الجماهير بشكل واسع وشملت مختلف الأعمار. وهذا مهم لفهم حدوث ردة الفعل تلك، أعني الانتفاضة، بعد الشرارة التي تمثلت في حادثة قتل أربعة عمّال بشاحنة إسرائيلية في مداخل غزة.
كانت ردّة فعل نابعة من إحساس الفلسطينيين بأن قضيتهم أصبحت عرضة لخيانة الأنظمة العربية. وذلك انطلاقاً من "قمّة عمّان"، والتي ظهرت فيها محاولات للتراجع عن الالتزامات العربية تجاه القضية الفلسطينية، واحتوت على رسائل واضحة لإدارة الظهر للشعب الفلسطيني، وبدا ذلك واضحاً في المعاملة غير اللائقة لياسر عرفات في مطار عمّان.
ساهم ذلك في تهيئة المسرح، والحقيقة أن أوّل أسبوع أو أسبوعين من الانتفاضة، كثيراً ما ساد الاعتقاد بأنها هبّة مثل الهبّات السابقة.
وقبل ذلك كانت هناك، ومنذ السبعينيات، لجنة التنسيق الفصائلية؛ وهي تضمّ مندوبين عن القوى الأربع لمنظمة التحرير التي كان لها وجود في الأراضي المحتلة، وهي الحزب الشيوعي وفتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية.
عَقدت هذه اللجنة عدة لقاءات بعد بدء الانتفاضة، وكانت هناك تقديرات مختلفة في البداية، ولكن بعد مرور أكثر من أسبوعين، أصبحت هناك قناعة عند الجميع، بأن هذه الهبّة مختلفة عن الهبّات السابقة، وتتضمن مقوّمات الاستمرار.
لجنة التنسيق الفصائلية وتشكيل ق. و. م
أثار الدهس المتعمّد للعمّال حفيظة الناس، وبدأت التحرّكات الشعبية بطبيعة الحال في غزة، إذ تحوّلت جنازتهم في اليوم التالي إلى مظاهرة هائلة ضمت عشرات الآلاف.
في لجنة التنسيق التي باتت تلتقي بشكل مكثف، جرى الاتفاق على أن يصدر النداء. في بدايته لم يكن أسبوعياً، قبل أن يستقرّ الوضع، لاحقاً، وصار يصدر أسبوعياً كل صباح يوم اثنين. وقد تمّ الاتفاق على أن تشكّل هيئة قيادية موحّدة.
كان كل طرف من الأطراف الأربعة في لجنة التنسيق، قد رشّح شخصاً، فعرفوا باسم "القيادة الوطنية الموحدة"، وكانت هيئة تنسيق. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن تشكيلها لم يكن من أعضاء الصفّ الأول ولا من الصف الثاني، بل من الصف الثالث في المراتب الحزبية في فصائلهم. وهذا ليس سراً، لأنه لمّا اعتقلت "القيادة الوطنية الموحدة"، كانت الأسماء معروفة، وبالتالي ما أقوله يؤكد ذلك.
منذ أن اتفق على تشكيل أول هيئة تنسيق قيادة وطنية موحدة، أصبحتُ الشخص المسؤول عن ممثلنا (الحزب الشيوعي)، وكانت علاقته بي شخصياً، في الضفة الغربية، حيث كانت هناك قيادة منفصلة في غزة.
وتعتبر القيادة المركزية هي القيادة الموجودة في الضفة الغربية، أما في غزة فكان لها طابع محلّي، كما كانت قد تشكلت، أيضاً، لجان تنسيق في مناطق مختلفة، مثلاً في نابلس وبيت لحم وعدة مناطق أخرى. وكانت هذه اللّجان تُصدر بيانات، بالمناسبة، ولكن لم تأخذ حجم النداءات المركزية، وكانت توقع باسم القيادة المحلية، وليس باسم القيادة الوطنية الموحدة.
خلق حالة عالمية
كانت آليّة العمل في "القيادة الوطنية الموحدة" على النحو التالي؛ يحمل كل عضو أفكاراً من حزبه ومن تنظيمه للاجتماع لمناقشتها ومنها تتكوّن بنود النداء الذي سيصدر، ثم يكلف أحد الأعضاء الأربعة بعمل مسودة للنداء، بناءً على النقاط التي يتم الاتفاق عليها، بما في ذلك، المقدمة السياسية، التي تسبق التوجيهات.
ويقوم الشخص بصياغته، ثم تلتقي هذه الهيئة مرة ثانية، لتستلم النسخ من المسودة، وكل طرف يعيدها إلى مرجعيّته الحزبية لأخذ الملاحظات من جديد. وبعد أخذ الملاحظات، يعودون للالتقاء ويتفقون على الصيغة النهائية. وهنا يكلّف نفس الشخص الذي قام بصياغة المسودة، بعمل الصيغة النهائية، ويقوم بكتابة أربع نسخ، يعيدها، في اليوم التالي، لزملائه الثلاثة الآخرين، كل منهم يأخذ نسخته ويقوم بعد ذلك كل حزب أو تنظيم بالطباعة والتوزيع على المناطق.
هذا التكليف كان يتم بالمداورة، بالتالي كانت كل أربعة نداءات تكون قد تمت صياغتها من أربعة أطراف. ويغلب على النداءات طابع التعليمات المشتركة، عمّا سيتم عمله خلال ذلك الأسبوع، ولكن بصيغ عامة قليلاً من أجل إعطاء الفرصة للمناضلين في المواقع المختلفة لأن يبتكروا بحسب ظروفهم.
ولم يحصل في أي مناسبة أن صدر نداء - بدءاً من الثالث بالتأكيد - بدون موافقة الأطراف الأربعة، وكان الشرط الذي تم الاتفاق عليه أن القرارات كلها، سواء النداء، أو الجوانب السياسية والاستراتيجية، أو الجانب التكتيكي، تؤخذ بالتوافق (الإجماع) ولا يجوز لأي طرف أن يستفرد بأي شيء.
هموم الناس كانت تصل بحكم أن التنظيمات كانت واسعة الانتشار وموجودة في كل مكان، في كل مدينة، وفي كل مخيم، وفي كل قرية، وبالتالي كانت تصل المعلومات، أولاً بأول.
مثلاً، في الحزب الشيوعي، على الأقل، كان مطلوباً من كل مسؤول في موقع أن يكتب تقريراً أسبوعياً عما جرى وما يجري في حدود المنطقة والصلاحيات. وهذه التقارير كانت تصل المسؤولين ويتم فرزها وتصلني أنا أيضاً. وكانت من جزأين؛ جزء أستفيد منه لتحضير النداء اللاحق، والجزء الثاني، كان يذهب للصحافة، مما هو قابل للنشر.
هناك شيء مهم جداً، فبعد بضعة أسابيع من بدء الانتفاضة، كنا نصدر، أيضاً، نشرة باللغة الإنجليزية اسمها FACTS، والتي كانت تصدر عن JMCC The Jerusalem Media and Communications Centre وليس عن القيادة الموحدة، وتتضمن تقارير نضالية مما لا تنشره الصحافة.
الهروب من الرقابة
كانت هناك ثلاثة مستويات من العمل في الصحافة. هناك المعلومات التي تنشرها الصحافة العادية المحلية. وهناك معلومات أوسع، حيث هامش الحرية أوسع، تصدر في جريدة الاتحاد والتي كنا نرسل لها ما كانت تحجبه الرقابة في الصحف المقدسية. وثالثاً، كانت المواضيع التي لا تنشر في كلا المستويين السابقين، تصدر في نشرة FACTS. في البداية، كانت تصدر كل أسبوع بالإنجليزية، وتوزّع على المراسلين. وبعد فترة قصيرة، صرنا نهتم بإرسالها إلى الخارج.
ومثّل ذلك مشكلة كبرى، إذ لم يكن باستطاعتنا إرسالها بالفاكس، فكنا نضطر أن نرسلها من فاكس في الداخل، وكل مرة من مكان، وترسل إلى عنوانين، أحدهما في لندن والثاني في براغ. وهناك، كانوا يعيدون توزيعها وطباعتها. بالتالي، كانت تصل للإعلام. بعد أسابيع من بدء الانتفاضة، تغيّر الوضع حين جاء صحافيون من العالم لتغطية الأحداث. وكان في JMCC فريق من الشباب يتحدثون الإنجليزية، لم يكن عددهم كبيراً، ممن كانوا يرافقون الصحافيين الأجانب، لأخذهم إلى المواقع المختلفة للترجمة والتغطية.
أكثر ما أثر في العالم هو التكتيكات التي اتبعت في الانتفاضة. كما انبهر الجميع بالانضباطية الهائلة للجماهير تجاه النداء، بمعنى أن الجماهير كانت تلتزم ببنود النداء الأسبوعي، حرفاً بحرف. حتى أن ضباط المخابرات الإسرائيلية كانوا يصيحون قائلين "ما هذا النداء؟ هل هو قرآن كريم؟".
من جهة أخرى، كانت الواقعية شديدة، ويسود إحساس بأن النداء كان يجيب بالفعل عن القضايا المطروحة. وسأعطي هنا بعض الدلائل. لقد كان ثمة هامش واسع للحركة عند المناضلين في المواقع، بحيث إنه ضمن الحدود المتاحة من أشكال النضال؛ من إغلاق الطرق وضرب الحجارة والمولوتوف كانت لديهم الحرية لعمل ما هو ملائم. لهذا السبب، ولأنه لم تكن هناك مركزية شديدة، لم يكن للإسرائيليين أن يتوقعوا ماذا سيحصل في بيرزيت أو في حلحول، لأن الشباب كانوا يتصرفون وفقاً للواقع. وكانت التجارب تنقل.
مثل العلم الفلسطيني تحدياً في غاية الأهمية، إذ كان الشباب يبتدعون طرقاً لكيفية تعليقه. وهكذا صرنا نرى العلم معلقاً على أسلاك الكهرباء بعد رميه عليها مربوطاً بحجر. ولأنه على سلك الكهرباء، لا يستطيع أحد إنزاله، بالتالي كان يبقى لفترة طويلة والكل يستطيع رؤيته.
الشعارات التي كانت تكتب على الجدران، كانت تكتب، أيضاً، بالإنجليزية كما استخدمت العبرية في مناسبات قليلة، بالتحديد ما بين ضاحية البريد حتى القدس.
الديمقراطية المشاركة
يريد الجميع أن يشارك بطريقته في الانتفاضة. وهذا الإبداع الهائل، أوجد عملياً الشغل للجميع من الأطفال وحتى كبار السن من السيدات والرجال. وكان يتجلّى في كل شيء، ليس فقط في المظاهرات أو ضرب الحجارة. ودخلت لجان العمل الشعبي في الزراعة والتعليم والأمن العام بدلاً من الشرطة، على سبيل المثال.
أذكر بأنه كانت هناك رغبة دائمة بين أساتذة بيرزيت للمشاركة والتفاعل مع الانتفاضة. فتم تأسيس مجموعتين من الأساتذة، ولم تكن أي مجموعة تعرف عن أخرى شيئاً، وكنا نلتقي مرّة في الأسبوع، على الأقل في لقاء يظهر وكأنه لقاء اجتماعي، كنا نتداول فيه شؤون الانتفاضة والأحداث اليومية.
كانت تخرج آراء من كل شخص حسب تخصّصه وحسب رؤيته، وكانت هذه الأفكار التي كانت تولّد في اللقاء، يتم نقل ما يصلح منها للقيادة الموحدة، وكنت ممّن يقومون بهذا الدور. والحقيقة، لاحظ عدد من الأساتذة بعد بضعة لقاءات، أن بعض أفكارهم، التي كنا نتداولها في اللقاء الذي يبدو اجتماعياً لا غير، كانت تظهر في النداءات الأسبوعية. الجميع لاحظ، ولكن الجميع تصرّف كأنه لم يفهم الأمر.
في كتاب ايهود يعاري وزئيف شيف حول الانتفاضة، تمت الإشارة إلى أنه كانت هناك لجنة، ويبدو أن المعلومات المخابراتية التي حصلوا عليها أوصلتهم إلى أنه كانت هناك لجنة، ولكن الحقيقة أن هذه اللجنة لم تكن سوى مجموعتين وليست مجموعة واحدة. لاحقاً، ما لم ندركه إلا متأخراً، أخذت التجربة أهمية عالمية، حيث نُظر إليها على أنها تجربة فريدة من نوعها.
ما فاجأني، أنه عندما طلب مني المشاركة في مؤتمر في استوكهولم، تشارك فيه مجموعة من الأحزاب اليسارية من أميركا اللاتينية وأوروبا وآسيا، فوجئت، وأنا الذي أعددت ورقة عن تجربة اللجان الشعبية خلال الانتفاضة، بأن المنظرين هناك كانوا يعتبرون أرقى شكل للتجربة الإنسانية الديمقراطية المشاركة، هو تجربة الانتفاضة وعملية بناء اللجان الشعبية.
ما هي الديمقراطية المشاركة، في النهاية؟ هي أن يشارك الناس في القرار الذي يمسّ حياتهم. ودليل أهمية هذه الترجمة على الصعيد العالمي، هو ما كُتب عنها، ليس فقط في سنوات حدوثها، بل أيضاً ما كتب عنها لاحقاً.
كون الانتفاضة استمرّت لفترة غير قليلة، فقد استطاعت أن ترسّخ ديناميكيات داخلية، قادرة على الاستمرار طالما أن المشاركين فيه عشرات ومئات الآلاف من الناس. وما استطاعت أن تقتل الانتفاضة، إلا بعد أن تكالب عليها، ليس فقط الإسرائيليون وأنظمة الرجعية العربية، بل أيضاً بعض دوائر منظمة التحرير الفلسطينية.
جبهة النضال ضد الإبعاد
من أواخر عام 1988، كانت إسرائيل قد بدأت بالنجاح في اعتقال أعداد غير قليلة من كوادر الانتفاضة. وكان مهمّاً أنه إذا ما اعتقل شخص، يوجد من يحل محله بسهولة. لجأ الإسرائيليون لموضوع الإبعاد، وقد أبعدوا فعلاً دفعة أو اثنتين. ثم وجدنا أنفسنا، أنا و17 شخصاً آخر وقد تمّ تجميعنا في "سجن الجنيد"، وأبلغونا بقرار الإبعاد، مع تباين الأسباب بين كل شخص.
في ما يتعلق بي شخصياً، كان القرار صادراً عن قائد المنطقة الوسطى، عمران متسناع، وكان النص يقول: "عن مسؤوليته في قيادة وتشكيل اللجان الشعبية". وكان هذا بتاريخ أسبوع من صدور الأمر العسكري الذي اعتبر اللجان الشعبية غير قانونية. وكان هذا تناقضاً كبيراً.
في ذات الليلة التي أُبلغنا فيها بالقرار، واتفقنا أننا سنخوض معركة طويلة، ونفتح جبهة جديدة في الانتفاضة، اسمها جبهة النضال ضد الإبعاد. كان أغلبنا قد جرّب السجن سابقاً مرة واثنتين وثلاث مرات، وبالتالي لم يكن الأمر مخيفاً. قلنا إن قراراتنا ستؤخذ بالإجماع، وطلبنا من محاميينا أن يشكلوا لجنة سوية، وأن يأخذوا تعليماتهم منا نحن مع الالتزام بعدم التفرد بالقرارات. وعندما أعطينا محاميينا التوكيلات، أبلغناهم بقرارنا، وأننا نريد إطالة أمد العملية و"نطلّع روح الإسرائيليين".
بعد لجنة الاعتراضات العسكرية، لم نذهب كلنا إلى محكمة العدل العليا، لأسباب مبدئية مختلفة. المرحلة الأولى، مرحلة الاعتراضات العسكرية، أخذت أشهراً، حيث أُبعدت أول مجموعة منا، ممّن قرروا عدم الذهاب إلى "المحكمة العليا"، في 1/1/ 1989، وكأنهم تعمدوا التاريخ ليتزامن مع احتفال فتح بانطلاقتها.
بقينا في المجموعة الثانية خمسة أشخاص، وخضنا معركة استمرت حتى 27/8/ 1989. أعطت تلك الأشهر الثمانية فرصة هائلة للتضامن. هناك مئات الوثائق والبرقيات والبيانات التي كانت تعبّر عن التضامن معنا، وفعلاً استطعنا أن نخلق جبهة اسمها "جبهة النضال ضد الإبعاد"، وأول وأهم نتائجها هو وقف قرارات الإبعاد، بعد الزخم المحلي والإسرائيلي والدولي الذي أخدته حركتنا.
عندئذ، كنا قد انتبهنا إلى مسألة أن من لم يكن لديه جواز سفر، كان يُحشر في لبنان لمدة طويلة جداً. لم يكن لديّ جواز سفر بعد مصادرة جوازي الأردني، وقد حاول الأصدقاء والعائلة ترتيب إمكانية الإبعاد إلى مكان آخر غير جنوب لبنان أو الأردن. لكن لم يوافق الإسرائيليون إلا بعد إصدار القرار النهائي من المحكمة العليا بالإبعاد، بشرط أن نجد دولة تستقبلنا.
وكان أمل الإسرائيليين ألا يسعفنا الوقت وألا ننجح في ذلك. وحيث إن العائلة والصليب الأحمر والـ JMCC قد لعبوا دوراً هاماً وسريعاً، حين اتصلوا بالقنصليات، فاستجابت وجاءت أول موافقة من فرنسا، ثم تبعتها موافقات من اليونان وقبرص وإيطاليا، وكانوا كلهم قد أصدروا الموافقات، في أيام العطلة الأسبوعية، فكان ذلك مفاجئاً لإسرائيل.
أما الزملاء الأربعة الآخرون، فقد جرى إبعادهم إلى جنوب لبنان، وتمّ تأخيري، ليوم إضافي، ثم أبعدت إلى باريس.
قد تكون الوثيقة الوحيدة في التاريخ، حتى الآن، التي حصلت على توقيع 1400 بروفيسور فيزياء ورياضيات في العالم، تلك التي حصلت عليها أثناء نضالي ضدّ الإبعاد، والتي وجّهت لإسحق رابين بصفته وزير الدفاع آنذاك.
تقول الوثيقة "إن قرار إبعاد تيسير عاروري غير قانوني، حيث إنه إذا كان لديكم أي تهم له، فقدموه للمحاكمة وليس الإبعاد". وقد أجاب رابين عن هذه الرسالة في لقاء مع بعض نواب الكنيست، قائلاً لهم "إن إبعاد تيسير سيشكل مشكلة، وعدم إبعاده، أيضاً، هو مشكلة كبيرة، ولكننا لن نتراجع عن القرار".
القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة وقيادة م. ت. ف
لم تكن الانتفاضة بقرار من أحد. ولما أصبح لها كل ذلك الزخم والقوة، صارت قيادة المنظمة تسعى لمحاولة احتواء الانتفاضة. الشيء الذي يسجّل هنا، والذي يفسّر لأي درجة كان مستوى التنسيق والتفاهم بين المسؤولين في القيادة الموحدة في الداخل، هو هذه القصة؛ في أحد الأيام، جاءنا مسؤول من فتح قائلاً، إنه وصلته رسالة من تونس تطلب أن يُقرَّر النداء في تونس، وأن نرسل إليهم بمسودة على أن يتم إصدار النسخة النهائية من تونس.
ولكنه قبل أن ينهي كلامه قال، نحن نعرف أنكم غير موافقين على هذا الكلام، ونحن، أيضاً، لسنا موافقين. ولكن فلنتفق على طرح الموضوع في الاجتماع، ونحن لن نناقش أي اعتراضات من الزملاء. وهذا ما تم، طرحوا الموضوع، وتم الرفض بناءً على أنه من غير الممكن تلبية هذا الطلب لأن النداء يحاكي الاعتبارات المحلية، ومن في تونس لا يستطيعون الإجابة عن احتياجات الانتفاضة والشارع، وانتهى الأمر بأن انتقلنا لنقاش القضية التالية.
استمر الوضع هكذا، إلى سنة 1990، حين جرى تغيير في طريقة عمل القيادة الوطنية الموحدة، ككل، فقد أحيلت إلى لجنة إعلامية، من شخصيات معروفة موجودة في القدس، وقد كلفوا كناطقين إعلاميين، وكان دورهم إعلامياً فقط. في تلك المرحلة ألغيت لجنة التنسيق.
وبطبيعة الحال، لم يستمر هذا الوضع طويلاً، فقد تقرر إنهاء القيادة الوطنية الموحدة، حيث لم تتمكن من متابعة العمل لا من حيث القدرة على ذلك بسبب كونهم غير معروفين، وبسبب أنهم لم يكونوا قادرين على طبيعة العمل الذي كان مطلوباً، ففشلت.
جاء ذلك لينهي الأجواء التي كانت سائدة بين أعضاء القيادة الوطنية الموحدة. وأذكر بأنه في أبريل/نيسان 1988، كان شولتس، وزير الخارجية الأميركي، في زيارة للمنطقة سيذهب فيها إلى الضفة الغربية، وجرى اتفاق سرّي (حيث كانت اللقاءات السرية بين الولايات المتحدة وقيادة منظمة التحرير قد بدأت) بأن يعطى الوزير الأميركي الضوء الأخضر ليلتقي بأربع شخصيات فلسطينية في القدس، تعد من الشخصيات المحسوبة على النظام الأردني إلى حد ما، ولا علاقة لها بالقيادة الموحدة، وكانت هذه الشخصيات تقف ما بين السلطات الأردنية وحركة فتح.
كان قرار القيادة الوطنية الموحدة ضد عقد اللقاء، خاصة أن هؤلاء لا يُسمح لهم بتمثيل الفلسطينيين ولا الانتفاضة، ولا يجوز أصلاً قرار كهذا بمعزل عن رأي القيادة الفلسطينية في الداخل.
بعد أخذ القرار بمنع اللقاء من دون حركة فتح، قال ما يلي: "بما أن هؤلاء الأشخاص معدودون على فتح، اتركوا تنفيذ القرار لنا وحدنا، حتى لا تكون هناك إشكالات". وفعلاً، أخذ شباب فتح على عاتقهم إبلاغ الشخصيات الأربع بأنهم ممنوعون من الالتقاء بشولتس بأمر من القيادة الوطنية الموحدة.
الوحيد الذي ناقش قليلاً، كان إلياس فريج، رئيس بلدية بيت لحم في ذلك الوقت، وأظهر لهم رسالة تكليفه بالمشاركة في اللقاء من ياسر عرفات أرسلت إليه عبر الفاكس، وقال لهم "أنا أنفذ أوامر القيادة"، فردّوا عليه قائلين: "نحن كنا نقول لك ممنوع عليك الذهاب إلى اللقاء، ولا نقول لك ممنوع أن تغادر بيتك". ولم يغادر أحدهم بيته.
كانت تلك رسالة هامة. طبعاً، جاء شولتس وانتظر ولم يأته أحد منهم، استشاط غضباً، ثم خرج مسرعاً من فندق "الأمريكان كولوني" وأعطى الصحافة تصريحاً مقتضباً جداً، وأكمل طريقه. وكانت هذه الحادثة بداية صراع خفي بين الداخل والخارج، بين القيادة الوطنية الموحدة، وقيادة تونس، التي اعتبرت أن كلمتها قد كسرت.
(شهادة مسجلة قدمها تيسير عاروري لـ "العربي الجديد" الموقع الإنجليزي)