لكن وكما يلاحظ، يُخشى أن تصبح الرواية المترجمة المرجعية الوحيدة للروائي، ما يتيح للرواية العربية استسهال التحلّل من إشكالات الواقع. فالتجريب كما فُهم، يطفو فوق الزمان والمكان، ويبحر في فضاء يحفل بكائنات ومشاكل وأفكار ليست لصيقة بعالمنا، فلا مبرّر للمنطق، طالما أن التجريب هو المنطق، وليس من مهمة الروائي إقناع القارئ الذي يقع عليه عبء تفكيك ما يقرأ، وتكهّن ما يراد قوله.
إذا كان الروائي في الغرب ينتفض على الإرث الذي يقيّده ويبحث عن منافذ أخرى، فالروائي العربي ينتفض على إرث لا يزيد عن بضع روايات معتبرة. هذا الروائي نفسه لم يتكوّن بعد، وفي مرحلة الولادة، وبدلاً من الاستفادة من الرواية الغربية، يوفّر على نفسه معاناة الكتابة بتقليدها واقتفاء خطاها، بالاشتباك في مغامرة التجريب، وإن كان بلا هدف، ومن دون امتلاك الأسس، أو القواعد التي سينقضّ عليها، اللهمّ إلاّ جاذبية المغامرة. إذا كان سيكتب بموجب هذا الحق المطلق، فكم من الجرائم سنحصد يا ترى؟!
هذا الإغراء، أحال كتابات الروائيين في فترة مضت إلى الأنموذج الكافكاوي، وهو أنموذج وعد بالكثير، تحت ضغط كتابات تستثمره، وتحيل كافكا إلى كاتب يحتمل أيّة فكرة من العدم والعبث إلى الوحدة والتغريب... فأصبح مجالاً لإثبات ألمعية نقّاد يوحون باكتشافات ليست من كدّهم، بل من كدّ اللاجدوى لذا يستعاد كافكا من حين إلى آخر.
على هذا النحو، لا تتقدّم الرواية بقدر ما تتراجع وتتخبّط في فراغ. طالما تحت هذا العنوان تُرتكب أغرب الخيانات للأدب وللحياة معاً، ما يعدّ غطاء أيضاً للكسل والإهمال والأخطاء.... وربما إذا أردنا التفكير فعلاً في الرواية، فالتجريب لا يأتي من الغواية أو الإرادة، ولا من كسر التقاليد، أو الخروج عن المألوف، فهو الفن نفسه، مطلوب كحاجة؛ الروائي يتطلبه إذ يصطدم بالعجز عن الأداء، ثمة فكرة تحوم في ذهنه لا تجد منفذاً لها، ما يستنهض الخيال، وأيضاً الجهد، وحتى الإلهام للتعبير عنها... هذا هو الفن، عندما يشعر الكاتب أنه يكسر رأسه بحثاً ربما عن شيء صغير، صغير جداً، لا يُرى، لفتة ما أو بارقة، تطلق شرارة، ومن بعدها الحرائق. إذا ظفر بها أحسّ بأن رأسه المحطم يلملم شظاياه، ويستقيم سليماً، إذاً لا يمكن الكتابة إلا بوعي... منتهى الوعي.
يجمعنا مع روائيي كوكبنا، عالم واحد، هو عالم الرواية، وإذا أردنا أن يكون لنا مكان فيه، فليس غير هذا الواقع وهذه الحياة بوصلتنا.