19 أكتوبر 2019
البرلمان العربي التسلطي وفرنسا الديمقراطية
تشكل احتجاجات أصحاب "السترات الصفراء" وأعمال العنف التي رافقت مظاهراتهم في باريس مناسبة للتشفي السياسي في فرنسا ورئيسها، فرسائل التشفي القادمة من واشنطن وروما وعواصم أوروبية أخرى يحكم فيها اليمين المتطرّف أو يشارك في الحكم، وحتى من أنقرة، تأتي من دول ديمقراطية، وإن كانت تركيا أردوغان تشهد تراجعاً للممارسات الديمقراطية.
حتى وإن قبلنا بمنطق المناكفة والنكاية في السياسة، هل يعقل أن تتحامل دول تسلطية عبر مؤسساتها على فرنسا الديمقراطية، وأن تجرؤ التسلطية على إعطاء دروس لدولةٍ من أكبر الديمقراطيات في العالم؟ نعم، فعلتها التسلطية العربية، فبعد أن ادعت أنها أكثر استقراراً من الديمقراطيات، ها هي اليوم تعيب على فرنسا عدم احترامها الديمقراطية، ليس حباً في الديمقراطية، وإنما انتقاماً من فرنسا المدافعة عن الديمقراطية، من دون أن نغضّ النظر عن الخلفيات السياسية لموقفها. نعم، فعلتها التسلطية العربية عبر البرلمان العربي الذي أصدر بياناً بشأن "حقوق الإنسان" في أوروبا و"موجة الاحتجاجات" في فرنسا، تابع فيه "بقلق شديد التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها" فرنسا، "احتجاجاً على رفع الضرائب وأسعار الوقود وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض القدرة الشرائية (...). ويعرب البرلمان العربي عن قلقه الشديد مما نتج من هذه التظاهرات من قمع غير مبرّر، واستخدام مفرط للقوة من الشرطة الفرنسية (...). وانطلاقاً من حرص البرلمان العربي على ضرورة احترام جميع الدول حقوق الإنسان والحريات العامة، وتوفير كافة الضمانات الضرورية، لتحصين وضمان كرامة المواطنين وحرياتهم، وضمان سلامة المحتجين السلميين"، يدعو إلى "التزام السلطات الفرنسية بضبط النفس، والامتناع عن الاستخدام المفرط للقوة أثناء الاحتجاجات، وضمان احترام حرية التعبير وكفالة الاحتجاج السلمي (...)، والإفراج عن المعتقلين (...)، والنظر في تلبية
مطالب المحتجين المتعلقة بتردّي الأوضاع المعيشية، واتخاذ الخطوات اللازمة لحماية حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية"! هل أوضاع المواطن العربي، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، أحسن من أوضاع المواطن الفرنسي؟ شتان بين هذا وذاك، وأهل مكّة أدرى بشعابها.
ماذا عسانا نقول عن هذه الجرأة التسلطية في حق الديمقراطية؟ الكثير، لكن لا يتسع الحيز هنا لذلك، فلْنكتفِ بتساؤلات تحمل في ثنايها أجوبة، لكن تُساق بهذه الصيغة لتبيان بؤس السياسية العربية. هل يجرؤ البرلمان العربي على إصدار بيان باللهجة نفسها في حق دولة عربية؟ إن فعل، وهذا مستبعد إلا إذا تعلق الأمر بصراعات عربية بينية وبالتحالفات المنبثقة عنها، فإن أعضاءه سيُسجنون في أسوأ الأحوال أو يقالون في أحسنها. هل أصدر البرلمان العربي بياناً مماثلاً دفاعاً عن حرية المواطنين العرب الذين قادوا أحداث الربيع العربي توقاً للحرية والديمقراطية؟ أي مصداقيةٍ لهذا البيان بشأن الاحتجاجات في فرنسا، بما أن البرلمان العربي منبثق عن برلمانات وطنية منبثقة هي الأخرى عن انتخاباتٍ غير ديمقراطية؟ فهل هو مؤهل لإعطاء دروس في الديمقراطية لديمقراطيةٍ عريقة؟ باستثناء ممثلي تونس في البرلمان العربي، فإن كل باقي أعضائه تم التصويت عليهم (أو تعيينهم) في انتخابات غير ديمقراطية (حسب المعايير الدولية). كيف ببرلمان عربي أن يطالب فرنسا الديمقراطية بأن تكفل حق "الاحتجاج السلمي"، والذي تقر به كحق قانوناً وممارسة، بينما يعلم أعضاؤه أن حق التظاهر والاحتجاج في الدول العربية غير مكفول، ويُنتهك بشكل ممنهج، تارة باسم حفظ النظام العام، وتارة أخرى باسم أمن الدولة، وتارة أخرى باسم الوحدة الوطنية وقوفاً في وجه ما يسمى بالأيادي الخارجية المتربصة بها؟ كيف به لا يحرّك ساكناً أمام الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين العرب أن يهتم بها في فرنسا؟ هل بلغ درجة عالية من الإيثار، جعلته يهتم بحال المواطن الفرنسي الذي ينعم بالديمقراطية، بينما يتجاهل حال المواطن العربي الذي يقبع تحت التسلطية منذ الاستقلال؟ كيف ببرلمان يمثل دولاً، باستثناء تونس، فيها سجناء الرأي؛ يُسجن فيها الصحافيون، ويقتلون أحياناً، ويُسجن فيها المدونون، والمعارضون... يُعذب بعضهم وتُصدر عقوبة الإعدام في حق بعضهم ويُعدم بعضهم الآخر، أن يطالب دولةً ديمقراطية لا سجناء رأي فيها أن تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير؟
للمناكفة والنكاية، مهما كانتا، حدود لا يقبل العقل تجاوزها. ومهما كانت خلفيات هذا التحامل السياسية (الانتقام من فرنسا لدروسها لغيرها في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية وتخوف الأنظمة التسلطية من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى البلدان العربية)، فإن هذا البيان خطأ سياسي، لأنه تحامل للتسلطية على الديمقراطية. عش تسمع وتقرأ، أعمى يريد أن يقود بصيراً! هذا هو حال البرلمان العربي الذي لم يتردّد في التحامل على فرنسا، واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم. هل نسي أعضاؤه أن الأقربين أولى بالمعروف؟ من لا يحترم حقوق الإنسان والديمقراطية في دياره لا يمكنه أن يدّعي الدفاع عنها في ديار الغير.
يذكّر بيان البرلمان العربي وموقفه هذا بمقولة وجيهة للغاية لدوستويفسكي: "من يكذب على نفسه، ويرضى أن تنطلي عليه أكاذيبه، يصل من ذلك إلى أن يصبح عاجزاً عن رؤية الحقيقة في أي موضع، فلا يعود يراها لا في نفسه، ولا في ما حوله، وهو ينتهي أخيراً، لهذا السبب، إلى فقد احترامه نفسه واحترامه غيره".
حتى وإن قبلنا بمنطق المناكفة والنكاية في السياسة، هل يعقل أن تتحامل دول تسلطية عبر مؤسساتها على فرنسا الديمقراطية، وأن تجرؤ التسلطية على إعطاء دروس لدولةٍ من أكبر الديمقراطيات في العالم؟ نعم، فعلتها التسلطية العربية، فبعد أن ادعت أنها أكثر استقراراً من الديمقراطيات، ها هي اليوم تعيب على فرنسا عدم احترامها الديمقراطية، ليس حباً في الديمقراطية، وإنما انتقاماً من فرنسا المدافعة عن الديمقراطية، من دون أن نغضّ النظر عن الخلفيات السياسية لموقفها. نعم، فعلتها التسلطية العربية عبر البرلمان العربي الذي أصدر بياناً بشأن "حقوق الإنسان" في أوروبا و"موجة الاحتجاجات" في فرنسا، تابع فيه "بقلق شديد التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها" فرنسا، "احتجاجاً على رفع الضرائب وأسعار الوقود وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض القدرة الشرائية (...). ويعرب البرلمان العربي عن قلقه الشديد مما نتج من هذه التظاهرات من قمع غير مبرّر، واستخدام مفرط للقوة من الشرطة الفرنسية (...). وانطلاقاً من حرص البرلمان العربي على ضرورة احترام جميع الدول حقوق الإنسان والحريات العامة، وتوفير كافة الضمانات الضرورية، لتحصين وضمان كرامة المواطنين وحرياتهم، وضمان سلامة المحتجين السلميين"، يدعو إلى "التزام السلطات الفرنسية بضبط النفس، والامتناع عن الاستخدام المفرط للقوة أثناء الاحتجاجات، وضمان احترام حرية التعبير وكفالة الاحتجاج السلمي (...)، والإفراج عن المعتقلين (...)، والنظر في تلبية
ماذا عسانا نقول عن هذه الجرأة التسلطية في حق الديمقراطية؟ الكثير، لكن لا يتسع الحيز هنا لذلك، فلْنكتفِ بتساؤلات تحمل في ثنايها أجوبة، لكن تُساق بهذه الصيغة لتبيان بؤس السياسية العربية. هل يجرؤ البرلمان العربي على إصدار بيان باللهجة نفسها في حق دولة عربية؟ إن فعل، وهذا مستبعد إلا إذا تعلق الأمر بصراعات عربية بينية وبالتحالفات المنبثقة عنها، فإن أعضاءه سيُسجنون في أسوأ الأحوال أو يقالون في أحسنها. هل أصدر البرلمان العربي بياناً مماثلاً دفاعاً عن حرية المواطنين العرب الذين قادوا أحداث الربيع العربي توقاً للحرية والديمقراطية؟ أي مصداقيةٍ لهذا البيان بشأن الاحتجاجات في فرنسا، بما أن البرلمان العربي منبثق عن برلمانات وطنية منبثقة هي الأخرى عن انتخاباتٍ غير ديمقراطية؟ فهل هو مؤهل لإعطاء دروس في الديمقراطية لديمقراطيةٍ عريقة؟ باستثناء ممثلي تونس في البرلمان العربي، فإن كل باقي أعضائه تم التصويت عليهم (أو تعيينهم) في انتخابات غير ديمقراطية (حسب المعايير الدولية). كيف ببرلمان عربي أن يطالب فرنسا الديمقراطية بأن تكفل حق "الاحتجاج السلمي"، والذي تقر به كحق قانوناً وممارسة، بينما يعلم أعضاؤه أن حق التظاهر والاحتجاج في الدول العربية غير مكفول، ويُنتهك بشكل ممنهج، تارة باسم حفظ النظام العام، وتارة أخرى باسم أمن الدولة، وتارة أخرى باسم الوحدة الوطنية وقوفاً في وجه ما يسمى بالأيادي الخارجية المتربصة بها؟ كيف به لا يحرّك ساكناً أمام الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين العرب أن يهتم بها في فرنسا؟ هل بلغ درجة عالية من الإيثار، جعلته يهتم بحال المواطن الفرنسي الذي ينعم بالديمقراطية، بينما يتجاهل حال المواطن العربي الذي يقبع تحت التسلطية منذ الاستقلال؟ كيف ببرلمان يمثل دولاً، باستثناء تونس، فيها سجناء الرأي؛ يُسجن فيها الصحافيون، ويقتلون أحياناً، ويُسجن فيها المدونون، والمعارضون... يُعذب بعضهم وتُصدر عقوبة الإعدام في حق بعضهم ويُعدم بعضهم الآخر، أن يطالب دولةً ديمقراطية لا سجناء رأي فيها أن تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير؟
للمناكفة والنكاية، مهما كانتا، حدود لا يقبل العقل تجاوزها. ومهما كانت خلفيات هذا التحامل السياسية (الانتقام من فرنسا لدروسها لغيرها في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية وتخوف الأنظمة التسلطية من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى البلدان العربية)، فإن هذا البيان خطأ سياسي، لأنه تحامل للتسلطية على الديمقراطية. عش تسمع وتقرأ، أعمى يريد أن يقود بصيراً! هذا هو حال البرلمان العربي الذي لم يتردّد في التحامل على فرنسا، واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم. هل نسي أعضاؤه أن الأقربين أولى بالمعروف؟ من لا يحترم حقوق الإنسان والديمقراطية في دياره لا يمكنه أن يدّعي الدفاع عنها في ديار الغير.
يذكّر بيان البرلمان العربي وموقفه هذا بمقولة وجيهة للغاية لدوستويفسكي: "من يكذب على نفسه، ويرضى أن تنطلي عليه أكاذيبه، يصل من ذلك إلى أن يصبح عاجزاً عن رؤية الحقيقة في أي موضع، فلا يعود يراها لا في نفسه، ولا في ما حوله، وهو ينتهي أخيراً، لهذا السبب، إلى فقد احترامه نفسه واحترامه غيره".