التحالف ضدّ الحلفاء.. داعش تتمدد
خلافاً لآمال عقدت، وتمنيات بكسر جمود سياسيّ راكم مأساتهم وعمق جراحهم، وأطال تغريبتهم الممتدة منذ أربع سنوات، لم يحدث تشكيل تحالف دولي لمواجهة داعش وبدء الضربات الجوية في سوريّة تغييرًا جوهريًا في مسار الصراع ودينامياته. فالتحالف المنشأ، وكما بدا جليًا، كان تحالف الضرورة لا الاختيار، أنشئ سريعاً من دون استراتيجيّة متكاملة، وركز على تكتيكات عسكريّة، لمواجهة ظاهرة بالغة التعقيد كداعش، خلقت، أصلاً، في ظل عسكرتاريا طائفية.
غداة تشكيله، كتبت في "العربيّ الجديد" مقالة بعنوان "مستقبل التحالف الدولي في سورية"، خلصت فيها إلى "أن التحالف الدولي القائم، قائم على تناقضات دوله. وأن تناقضاته ستبقى رماد تحت جمرٍ، لا يعرف متى تنفخ الرياح فيها". لم تتأخر الرياح طويلاً، وهبت عاصفة من عين العرب- كوباني، فنفخت في جمرٍ أذكت ناره الأضداد، وهشّمت صورة التحالف ومرتكزاته.
كانت معركة عين العرب- كوباني فخاً نصبه داعش للتحالف، قبيل بدء الضربات. فالتنظيم، قرأ بتمعن مواقف دوله وتوجهات سياساتها الخارجية وتضاد مصالحها، كما توضح في اجتماع جدة 11 سبتمبر/أيلول، ومؤتمر باريس 15 سبتمبر/أيلول الماضي، ولعب على وتر التناقضات بأن حصر أولوياته السورية عسكرياً في اقتحام المدينة ذات الغالبية الكرديّة، والتي تعد عصب مشروع الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، خشية توظيف الأكراد في قتاله، على غرار ما جرى في شمال العراق.
وعلى الرغم من أن تدمير الإدارة الذاتية، وإضعاف (PYD) عسكريًا، يصبان عملياً في مصلحة تركيا، فإن الأخيرة لم تكن مرتاحة لاستبدال خطر بخطر أكبر، لاسيما وأن داعش اكتسب زخما عسكرياً في الشهور الأخيرة، مكّنه من تغيير خارطة المنطقة برمتها. ولتعظيم منافعها، حاولت تركيا تقليد سلوك الإدارة الأميركيّة في العراق، بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، والتي "وظفت" تقدم داعش، آنذاك، لإطاحة المالكي وكسر الهيمنة الإيرانيّة المطلقة على القرار العراقيّ، فأصبح تدخلها، ودورها "حاجة" لا يمكن الاستغناء عنها، لمواجهة التنظيم وطرده. وبناء عليه، وضمن فهمها لدورها ولأهمية موقعها الجغرافيّ، طرحت تركيا شروطها للتدخل في سوريّة؛ بإقامة منطقة آمنة، وحظر جويّ، ووضع هدف "إسقاط الأسد" في أولويات التحالف، لكن مسعاها اصطدم ببراغماتيّة أميركيّة أفشلته. وبدل مراعاتها وتفهم هواجسها، تجاوزت الإدارة الأميركيّة تركيا آنيًا، وفتحت اتصالات مع حزب الاتحاد الديمقراطيّ، ونسّقت مع ذراعه العسكري المتمثل بوحدات الحماية الشعبية (YPG)، ومدته جوًا عبر طائرات سي – 130 بحمولات تتضمن أسلحة ومواد غذائية وطبية، فأعاقت تقدم مقاتلي داعش، ومنعت سقوط المدينة، من دون أن تنجح في إزالة التهديد نهائيًا، ما دفع تركيا لتبني الخيار (ب)، والقائم على تقليص الخسائر واستبدال "العدو" بـ "صديق مكروه"، فأعلنت موافقتها على عبور مقاتلي البيشمركة إلى عين العرب – كوباني عبر أراضيها.
لا شك أن ضربات التحالف اليوميّة خلفت خسائر كبيرة في عتاد داعش وعديده، لكن الأخير كسب أولى الجولات وأهمها، فقد عرّى التحالف وأهداف دوله، وخصوصاً الولايات المتحدة، والتي أقر رئيسها بأن "إسقاط الأسد ليس أولويّة"، في حين تحدث وزير خارجيتها، جون كيري، عن "لا أخلاقية" ترك المقاتلين الأكراد من دون سلاح، وتجاهل، بلا أخلاقيته المعهودة، نداءات قوى المعارضة وفصائلها، لتزويدها في السلاح، لمواجهة قوات النظام والمليشيات الطائفيّة المتحالفة معها، وداعش أيضًا. من جهة أخرى، بدأ الوصف الداعشيّ للتحالف بأنه تحالف ضد الإسلام، ولخدمة إيران والأسد، يترسخ لدى شرائح شعبية واسعة في سوريّة، لاسيما بعد الرفض الأميركي الشروط التركيّة، وتسليحها الانتقائي مقاتلي وحدات الحماية الكردية دون سواها. كما دفع التقدم الميدانيّ لقوات النظام، في الأسابيع الأخيرة في مواقع استراتيجية، كما جرى في حلب ومورك وريف دمشق، فصائل من المعارضة السورية المسلحة إلى إعادة التفكير جديًا بمواقفها من داعش. فعدا عن انضمام مقاتلين وقيادات في جبهة النصرة وجيش الشام للتنظيم، وتوقيعه مع جبهة النصرة وفصائل أخرى في القلمون اتفاقًا لمواجهة حزب الله والجيش اللبناني، جمدت فصائل المعارضة معظم جبهات المواجهة والاشتباك معه، كما حصل في أحياء دمشق الجنوبيّة، والغوطتين، وجبهة اخترين في حلب. إلخ. ويؤكد ما سبق، إضافة إلى مؤشرات أخرى، كالسيطرة على قضاء هيت ومعظم محافظة الأنبار، أن التحالف لم يضعف داعش، بل زاد من قوته ماديا ومعنويًا.
لا يراعي التحالف، بأهدافه المعلنة، سوى المصالح الآنية المرتبطة بالبعد الأمنيّ للولايات المتحدة، ولا يحقق أيًا من مصالح الحلفاء الإقليميين، كانوا منخرطين فيه، مثل بعض الدول الخليجية، أو خارجه كتركيا والمعارضة السوريّة التي لم تدع، أصلاً، للمشاركة فيه. كما لا يخفى على مراقب أن استراتيجية التحالف أفادت النظام السوري، وحسّنت وضعه العسكريّ والسياسيّ، وعززت موقع إيران في الساحة العراقية، بعد سلسلة من الانتكاسات. فعلى الرغم من تشكيل حكومة جديدة، برئاسة حيدر العباديّ، فإنها عجزت، حتى الآن، عن اتخاذ خطواتٍ من شأنها رفع الحيف والظلم الذي لحق بالعراقيين من العرب السنة، أو تحقيق مطالبهم المرفوعة منذ سنتين على الأقل. في المقابل، رضخت هذه الحكومة للضغوط الإيرانية، فشرعنت المليشيات الطائفية التي كانت سببا رئيسًا في الأزمة الراهنة، ورفضت الاعتراف بانتهاكاتها وجرائمها، على الرغم من التقارير الحقوقية العراقية والدولية (جديدها تقريرا هيومن رايتس ومنظمة العفو الدولية)، وساوتها في "المكانة والمحاسبة" مع الجيش والقوات الأمنية، وجمّدت مشروع الحرس الوطني، كونها ترى في المليشيات الطائفية قوة محتملة وبديلة لملء الفراغ في المناطق "السنية" التي قد ينسحب منها داعش لاحقًا. لذلك، يخشى، أن يكون التدخل الأميركي العسكريّ المتجدد، وكما كان غزو العراق عام 2003، فرصة إيرانيّة لإعادة ترتيب المنطقة، بما يتوافق مع طموحاتها الامبراطوريّة، ومشروعها التوسعيّ، وبمساهمة عسكرية ومالية عربيّة وخليجية.
في هذا السياق، الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعوديّة، مطالبة بمراجعة حساباتها وسياساتها، وتقييم نتائج تدخلها على مصالحها الوطنيّة على أساس حسابات الربح والخسارة في المنظور الاستراتيجي العام، وليس ضمن منظور المهاترات والاستقطاب الأيديولوجي القائم.