07 نوفمبر 2024
التصالح مع العالم أوّلاً
تُواجه المجتمعات العربية، في العقد الثاني من القرن الجاري، تحولاتٍ تدفعنا إلى تجاوز ميراث المشروع النهضوي في صِيَغِه التكرارية. فقد أنبأت انفجارات 2011 بلزوم العمل على رفع جوانب عديدة من ثنائيات الفكر النهضوي وإشكالاته، وخصوصاً أن مفاهيم الجيل الثالث من أدبيات الإصلاح النهضوي ساهمت في بلورة جوانب عديدة من ملامح الجهد العربي، المتجلية نتائجه في نحت طريق التحديث السياسي والثقافي في الواقع والفكر العربيين، إضافة إلى المتغيّرات الجديدة التي دشّنتها أفعال التغيير، والتي أطاحت ببعض أنظمة التسلّط والفساد، وعملت، في الوقت نفسه، على خلخلة الشرعية السياسية في بلدانٍ عربيةٍ كثيرة.
يمكن أن نشير، هنا، إلى أن مؤشرات عديدة في الواقع العربي تنبئ بإمكانية التخطي والتجاوز، وبناء أفقٍ في التحديث السياسي، يتيح للعرب تجاوز تأخّرهم وارتباكهم السياسي. يتعلق الأمر بالثورة التي ترتبت عن مكاسب التقنية ومجتمعات المعرفة، الأمر الذي حوَّل العالم إلى قارة واحدة، وإن ظلّت مجتمعات هذه القارة تحمل خصوصيات تاريخية، تميّز بعضها عن بعضها الآخر، وتصنع الفوارق والمسافات في حظوظ التنمية والثورة والعمل.
نضيف إلى ذلك مؤشراً آخر، يرتبط بتحولات القيم. ذلك أَن ثورات العلم في مجال البيولوجيا وتقنيات الجينيوم، ثم ثورات السياسة في مجالات التاريخ، وثورات الغنى والفقر المترتبة عن اقتصاديات مجتمع المعرفة، ساهمت في التحولات الكبيرة الحاصلة في مجال القيم، ونفترض أنه ستكون لها انعكاسات على المجتمعات والأفراد والسلوكيات. فلا أحد يستطيع، اليوم، أن يتنبأ بالنتائج المحتملة للتحولات المذكورة، في نفسيات الأجيال الجديدة من الناشئة.
تستدعي تحولات القيم وتحولات العلم والتقنية أن ينخرط العرب، بشكل عاجل، في تحقيق تواصل منتج وفعال مع كل ما يجري في العالم. بهذا المعنى، نفهم عنوان هذه المقالة، فنحن مدعوون، اليوم وليس غداً، إلى تصفية حساباتنا مع تركة المشروع النهضوي وثنائياته، من قبيل الأنا والآخر، الذات والعالم، الإسلام والغرب، الداخل والخارج. فكل هذه الثنائيات أصبحت، في نظرنا، إرثاً مُتجَاوَزاً، فقد أصبح الخارج في الداخل، واحتل الآخر مكانةً مُحددةً في مَسَامِّ جَلْد الذات.
يترتب عن التعيينات السابقة إنجاز ثورة ثقافية، تعيد النظر في ثنائياتٍ رَكَّب ملامحها العامة الخطاب النهضوي والمشروع الإصلاحي في الفكر العربي المعاصر، وذلك بالصورة التي تسمح بتجاوز الثنائيات المذكورة، وتبنّي بدائل لها، في تجاوب مع مقتضيات التحول التي يعرفها العالم.
لم ننتبه إلى أن المشروع الياباني في التحديث، والذي واكب انطلاق بدايات المشروع النهضوي العربي في ولوج دروب الأزمنة الحديثة، ابتكر لنفسه مفهوماً مركّباً يساعده على الإسراع بتملُّك مقدّمات المُعاصَرة وأصولها. يتعلق الأمر بما أطلقت عليه النُخَب اليابانية: التقليد الأكبر، بهدف الدفاع عن ضرورة التعلُّم من مكاسب الحضارة المعاصرة، للتمكُّن، لاحقاً، من المشاركة في إبداع جانبٍ من مكاسب الثورات المتحققة في العالم اليوم. وترتب عن ذلك، الموقع الذي أصبحت تحتله اليابان في مجال المساهمة في تركيب منجزات الفكر المعاصر.
ما زال الفكر العربي يمارس كثيراً من خلط الأوراق في هذه النقطة بالذات، حيث تتداخل مستويات التحليل، الأمر الذي يُضَيِّق إمكانية إيجاد المخارج المناسبة لتجاوز أعطابنا في المعرفة والسياسة والتاريخ. نعرف أن انتقال الثقافة الغربية إلى المحيط الحضاري العربي، في الظرفية التي انتقلت فيها إلينا، ولَّدَ معارك مادية ورمزية عنيفة مع الذات، ومع الغرب الاستعماري. ولهذا، تبلورت، في المشروع الثقافي النهضوي، مواقف متناقضة من الغرب ومشروعه الثقافي.
تعود الثنائيات التي تبلورت في الفكر النهضوي، في جانب منها، إلى العامل الذي ذكرنا، إلا أن الطابع المُرَكَّب للمعارك الثقافية، اليوم، داخل مجتمعاتنا وخارجها يدعونا إلى عدم إغفال درجات تَمثُّلنا للثقافة الغربية المعاصرة.
ضمن هذا السياق، نشير إلى أن لغة الهوية المتشنجة، ولغة مرجعية الأصل الذي لا أصل يعلو عليه، لا تنفع كثيراً في زمنٍ لم تعد فيه هويتنا التاريخية مُغلقةً على ذاتٍ مُكوَّنةٍ من عقيدة مطلقة فقط، ولعلها لم تكن كذلك في أي يوم، إلا في الأذهان التي لجأت إلى استخدام "سلاح" الهوية في مواجهة تاريخية غير متكافئة، مغفلين الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به الروح النقدية وروح الوعي التاريخي المفتوح، عندما يستخدم بديلاً لما ذكرنا، ونحن نواجه مصيرنا.
عندما نعترف بأن الغرب يعدّ، اليوم، جزءاً من تاريخنا المعاصر، وأن مكاسبه في الثقافة والسياسة والتقنية تعدّ جزءاً من مكاسب عالمنا المعاصر، فإن الثنائيات المفهومية التي حددت ملامح تصورنا لعلاقاتنا به خلال عقود القرن العشرين، لا تعود مناسِبةً لفهمٍ أكثر تاريخيةً لما حصل بيننا وبينه. فقد أثمرت عمليات المثاقفة، التي حصلت في القرنين الماضيين، نتائج لا يمكن إغفالها ولا التقليل من قيمتها، ولا يمكن التنكّر لها بدعوى المحافظة على "الهوية". لهذا السبب، نتحدث، هنا، عن ضرورة التجاوز، ونتجه إلى بلورة ما يُسعف بإدراكٍ أفضل لدرجات انخراطنا الفاعل في العالم المعاصر.
يمكن أن نشير، هنا، إلى أن مؤشرات عديدة في الواقع العربي تنبئ بإمكانية التخطي والتجاوز، وبناء أفقٍ في التحديث السياسي، يتيح للعرب تجاوز تأخّرهم وارتباكهم السياسي. يتعلق الأمر بالثورة التي ترتبت عن مكاسب التقنية ومجتمعات المعرفة، الأمر الذي حوَّل العالم إلى قارة واحدة، وإن ظلّت مجتمعات هذه القارة تحمل خصوصيات تاريخية، تميّز بعضها عن بعضها الآخر، وتصنع الفوارق والمسافات في حظوظ التنمية والثورة والعمل.
نضيف إلى ذلك مؤشراً آخر، يرتبط بتحولات القيم. ذلك أَن ثورات العلم في مجال البيولوجيا وتقنيات الجينيوم، ثم ثورات السياسة في مجالات التاريخ، وثورات الغنى والفقر المترتبة عن اقتصاديات مجتمع المعرفة، ساهمت في التحولات الكبيرة الحاصلة في مجال القيم، ونفترض أنه ستكون لها انعكاسات على المجتمعات والأفراد والسلوكيات. فلا أحد يستطيع، اليوم، أن يتنبأ بالنتائج المحتملة للتحولات المذكورة، في نفسيات الأجيال الجديدة من الناشئة.
تستدعي تحولات القيم وتحولات العلم والتقنية أن ينخرط العرب، بشكل عاجل، في تحقيق تواصل منتج وفعال مع كل ما يجري في العالم. بهذا المعنى، نفهم عنوان هذه المقالة، فنحن مدعوون، اليوم وليس غداً، إلى تصفية حساباتنا مع تركة المشروع النهضوي وثنائياته، من قبيل الأنا والآخر، الذات والعالم، الإسلام والغرب، الداخل والخارج. فكل هذه الثنائيات أصبحت، في نظرنا، إرثاً مُتجَاوَزاً، فقد أصبح الخارج في الداخل، واحتل الآخر مكانةً مُحددةً في مَسَامِّ جَلْد الذات.
يترتب عن التعيينات السابقة إنجاز ثورة ثقافية، تعيد النظر في ثنائياتٍ رَكَّب ملامحها العامة الخطاب النهضوي والمشروع الإصلاحي في الفكر العربي المعاصر، وذلك بالصورة التي تسمح بتجاوز الثنائيات المذكورة، وتبنّي بدائل لها، في تجاوب مع مقتضيات التحول التي يعرفها العالم.
لم ننتبه إلى أن المشروع الياباني في التحديث، والذي واكب انطلاق بدايات المشروع النهضوي العربي في ولوج دروب الأزمنة الحديثة، ابتكر لنفسه مفهوماً مركّباً يساعده على الإسراع بتملُّك مقدّمات المُعاصَرة وأصولها. يتعلق الأمر بما أطلقت عليه النُخَب اليابانية: التقليد الأكبر، بهدف الدفاع عن ضرورة التعلُّم من مكاسب الحضارة المعاصرة، للتمكُّن، لاحقاً، من المشاركة في إبداع جانبٍ من مكاسب الثورات المتحققة في العالم اليوم. وترتب عن ذلك، الموقع الذي أصبحت تحتله اليابان في مجال المساهمة في تركيب منجزات الفكر المعاصر.
ما زال الفكر العربي يمارس كثيراً من خلط الأوراق في هذه النقطة بالذات، حيث تتداخل مستويات التحليل، الأمر الذي يُضَيِّق إمكانية إيجاد المخارج المناسبة لتجاوز أعطابنا في المعرفة والسياسة والتاريخ. نعرف أن انتقال الثقافة الغربية إلى المحيط الحضاري العربي، في الظرفية التي انتقلت فيها إلينا، ولَّدَ معارك مادية ورمزية عنيفة مع الذات، ومع الغرب الاستعماري. ولهذا، تبلورت، في المشروع الثقافي النهضوي، مواقف متناقضة من الغرب ومشروعه الثقافي.
تعود الثنائيات التي تبلورت في الفكر النهضوي، في جانب منها، إلى العامل الذي ذكرنا، إلا أن الطابع المُرَكَّب للمعارك الثقافية، اليوم، داخل مجتمعاتنا وخارجها يدعونا إلى عدم إغفال درجات تَمثُّلنا للثقافة الغربية المعاصرة.
ضمن هذا السياق، نشير إلى أن لغة الهوية المتشنجة، ولغة مرجعية الأصل الذي لا أصل يعلو عليه، لا تنفع كثيراً في زمنٍ لم تعد فيه هويتنا التاريخية مُغلقةً على ذاتٍ مُكوَّنةٍ من عقيدة مطلقة فقط، ولعلها لم تكن كذلك في أي يوم، إلا في الأذهان التي لجأت إلى استخدام "سلاح" الهوية في مواجهة تاريخية غير متكافئة، مغفلين الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به الروح النقدية وروح الوعي التاريخي المفتوح، عندما يستخدم بديلاً لما ذكرنا، ونحن نواجه مصيرنا.
عندما نعترف بأن الغرب يعدّ، اليوم، جزءاً من تاريخنا المعاصر، وأن مكاسبه في الثقافة والسياسة والتقنية تعدّ جزءاً من مكاسب عالمنا المعاصر، فإن الثنائيات المفهومية التي حددت ملامح تصورنا لعلاقاتنا به خلال عقود القرن العشرين، لا تعود مناسِبةً لفهمٍ أكثر تاريخيةً لما حصل بيننا وبينه. فقد أثمرت عمليات المثاقفة، التي حصلت في القرنين الماضيين، نتائج لا يمكن إغفالها ولا التقليل من قيمتها، ولا يمكن التنكّر لها بدعوى المحافظة على "الهوية". لهذا السبب، نتحدث، هنا، عن ضرورة التجاوز، ونتجه إلى بلورة ما يُسعف بإدراكٍ أفضل لدرجات انخراطنا الفاعل في العالم المعاصر.