المقر المركزي
حاولت "العربي الجديد" الاتصال مراراً بمقر حملة المرشحة الفرنسية، في الدائرة الثامنة، غير البعيد عن الإليزيه، وكانت بعض الردود ترفض زيارة المقر، وأخرى تطلب أرقام هواتف مراسلي "العربي الجديد" وعناوينهما البريدية ولكنها لا تعاود الاتصال. حينها، قرر مراسلا "العربي الجديد" التوجّه إلى المكان من دون موعد مسبق. وشاءت الصدف أن جاءت الزيارة للمقر بعد تعرّضه لمحاولة إحراق، ليلة 12 إبريل/ نيسان الحالي، وقالت لاحقاً مجموعة صغيرة تسمي نفسها "مكافحة كراهية الأجانب"، إنها هي من نفذته. اعتداءٌ استثمرته مارين لوبان إلى أبعد مدى، عبر اتهامها لجماعات يسارية متطرفة بـ"العمل على إحراق متاجر وسيارات ومهاجمة الشرطة".
الطاقم الانتخابي
استعانت مارين لوبان بطاقم انتخابي مصغر وفعّال من 34 عضواً من الحزب، لا يوجد بينهم أي شخص يتحدّر من أصول عربية وإسلامية، على الرغم من ادعاء قياديين من "الجبهة الوطنية" بتزايد أعداد مسلمي فرنسا الذين يُصوتون لصالح الحزب اليميني المتطرف. هؤلاء الأعضاء الـ34 يمثّلون ما يسمى "المجلس الاستراتيجي للحملة"، يجتمعون مرة كل أسبوع، من دون اشتراط حضور الجميع، ويرافقون لوبان في كل تحركاتها وأنشطتها على مدار الأسبوع.
هذا الطاقم المصغر يعمل تحت إشراف القيادي دافيد راشلين. وإلى جانبه توجد شخصيات بعضها أصبحت مشهورة في وسائل الإعلام الفرنسي والدولي، بعد سياسة الانفتاح التي دشنتها لوبان، إثر تخلصها من سيطرة الوالد/ المؤسّس، والتي استجابت لها كثير من وسائل الإعلام. من بين هذه الشخصيات لويس أليوت، ألان أفيلو، نيكولا باي، وهو الشخصية التي أرسلتها لوبان إلى إسرائيل لتطبيع العلاقات بين الحزب الفرنسي واليمين الإسرائيلي، والمحامي المثير للجدل جيلبرت كولار، وكاترين غريزيت، وماريون ماريشال لوبان، فلوريان فيليبو، وإيريك دومار وغيرهم.
ويُعتبر فلوريان فيليبو، الرقم الثاني في الحزب، القادم من تيار شوفينمان ومن الديغولية، إضافة إلى زوجها لويس أليوت، نائب رئيس الحزب، وإيريك دومار، الصحافي السابق المتخصص في الرد على الهجمات السياسية في الويب، من أهم القياديين إلى جانب مارين لوبان. من دون نسيان الدور الكبير الذي اضطلع به المحامي كولار، لجهة فتح الحزب على المجتمع المدني، وإبعاد صفة التطرف عنه.
تمويل الحملة
مع كل استحقاق انتخابي تتكرر لازمة رفض المصارف الفرنسية تقديم قروض لـ"الجبهة الوطنية" لتمويل حملاتها الانتخابية. وحسب معظم التقديرات، فإن الحزب يحتاج إلى 15 مليون يورو للرئاسة و15 مليون يورو إضافية من أجل الانتخابات التشريعية (11 و18 يونيو/ حزيران)، إضافة إلى أن حضور لوبان في الدورة الثانية، وهو شبه مؤكد وفق استطلاعات الرأي، يفرض عليها أن تحظى بـ5 ملايين يورو إضافية.
كل هذه المبالغ يجب إضافتها إلى ميزانية الحزب التي تصل إلى 8 ملايين يورو سنوياً. وتطرح مشكلة كبيرة هنا، لأن عائدات الحزب محدودة، إذ لم يدفع في العام الماضي رسوم العضوية سوى 57 ألف منتسب من بين 85 ألف عضو. كما أن منتخبي الحزب في السلطات المحلية والإقليمية لا يتجاوزون 1995 شخصاً، استقال منهم نحو 400، وتُعتبر التعويضات التي يتلقونها هزيلة، قياساً بتعويضات نواب البرلمان ومجلس الشيوخ، لكن الحزب لا يمتلك سوى نائبين في البرلمان ومثلهما في مجلس الشيوخ.
وأمام رفض المصارف الفرنسية تقديم قروض للحزب اليميني المتطرف، لم تتردد مارين لوبان في الاعتراف بأنها طلبت قروضاً من مصارف أوروبية وبريطانية وأميركية وروسية، مؤكدة أنها ستقبل التعامل مع أول مصرف يستجيب لطلبها. وتتذرع الكثير من المصارف الفرنسية بأنها لا تموّل تشكيلات سياسية. بينما ترى أخرى أن السياسيين الفرنسيين يوجدون في حالة هشاشة مالية، لا توفر ضمانات للمصارف، وهو ما ترفضه مارين لوبان بالقول إن حزبها سيجتاز عتبة 5 في المائة، وهو ما يدفع الدولة لتعويض نفقات حملاتها الانتخابية.
ولكن المبرر الأقوى يجب البحث عنه أمام القضاء. فالمصارف تريد أن تعرف كيف سيتم التصرف بالأموال من قبل حزب يُلاحَق اثنان من قيادييه، بشبهة التحايل على أموال الدولة، خصوصاً أثناء الحملتين الرئاسية والتشريعية عام 2012. من هنا لم يبقَ سوى الصديق الروسي لمنح الحزب الفرنسي هذه القروض المطلوبة، ومن هنا، أيضاً، جاء استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمارين لوبان، يوم 24 مارس/ آذار الماضي.
من ثوابت السياسة الفرنسية
المكانة التي تمنحها استطلاعات الرأي لمارين لوبان ليست مفاجئة، ولا نابعة من الصدفة، وهذه النسبة المئوية التي تراوح ما بين 22 و26 في المائة في الجولة الأولى من الانتخابات، ثابتة، تفسرها وتدعمها الانتصارات الانتخابية التي حققها حزبها في السنوات الأخيرة الماضية، خصوصاً خلال ولاية الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، والتي لولا ما سمي بـ"الجبهة الجمهورية" (التي تعني تحالف اليمين واليسار ضد اليمين المتطرف)، لاكتسح حزب "الجبهة الوطنية" شمال فرنسا وجنوبها، ولولا أصوات اليسار لما كان اليمينيّان كريستيان إيستروزي وكزافيي برتراند، يُسيّران هاتين المنطقتين، ولكانت محلهما مارين لوبان وابنة أختها ماريون ماريشال لوبان.
خاضت مارين لوبان حملة من أنشط الحملات، وزارت معظم المناطق الفرنسية وبعض الدول العربية والأفريقية، منها لبنان وتشاد، إلا مناطق فرنسا ما وراء البحار، بسبب رفض معظم سكان هذه المناطق لخطاب الوصم الذي تعبّر عنه مارين لوبان، والذين يعتبرونه استمرارية لخطاب "الرجل الأبيض"، الذي لم يتغير على الرغم من تغير الظروف.
وليس مفاجئاً أنّ نسبة كبيرة من ناخبي مارين لوبان من كبار السن، خصوصاً من "الأقدام السوداء"، أصحاب الحنين إلى الجزائر الكولونيالية، ومن "الحركيين"، والذين يرون أن مختلف حكومات فرنسا خضعت لإملاءات الجزائر وشروطها. وفي هذا الصدد صرّحت، يوم الأربعاء الماضي، أن "الاستعمار الفرنسي قدّم الشيء الكثير، خصوصاً في الجزائر".
وجاءت الأزمة الاقتصادية العاصفة، التي تضرَّر منها كثير من الفرنسيين، لتجلب إليها جمهوراً جديداً، استطاعت لوبان أن تقنعهم بأن الاتحاد الأوروبي مسؤول عنها. ثم جاءت أزمة تدفق المهاجرين واللاجئين، قبل نحو سنتين، فرأت لوبان فيها أيضاً مسؤولية للاتحاد الأوروبي، وخضوعاً للإملاءات الألمانية، مشددة في أكثر من تصريح على أنها لن تكون أبداً مستشارة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهي تعتبر الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والحالي هولاند مجرد مستشارين لدى ميركل، كما سيكون عليه، أيضاً، حال منافسيها إيمانويل ماكرون وفرانسوا فيون، في حال نجاح أحدهما.
ثم جاءت العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا، فرأت فيها لوبان عدم قابلية الإسلام للتعايش مع الجمهورية. ووصل بها الأمر، في 17 الحالي، إلى إطلاق مزايدات غير مسبوقة، وهي تعرف شعور الفرنسيين المتزايد بانعدام الأمن، لتصرح قائلة: "لو كنتُ رئيسة لفرنسا، لما فعل الإرهابيون المهاجرون ما فعلوه في مسرح الباتاكلان، ولمَا فعل محمد مراح ما فعل من قتله للعسكريين وللأطفال اليهود".
ليس سرّاً أن بعض مسلمي فرنسا يصوّت لصالح "الجبهة الوطنية"، ومن حين لآخر تظهر بعض الوجوه السمراء في إعلانات "الجبهة الوطنية" وهي تدافع عن الحزب، وتنفي عنه صبغة العنصرية والكراهية. ولكن هذه الأقلية كانت أنشط خلال فترة جان ماري لوبان مقارنة مع فترة مارين لوبان، التي تراهن على "تطبيع" وضعها في فرنسا والعالم، عبر فتح قنوات مع إسرائيل ومحاولة الابتعاد عن تهم معاداة السامية. فقد كان هذا التقرب من إسرائيل شرطاً من قِبل عدة أحزاب يمينية متطرفة، لتكوين مجموعة برلمانية في البرلمان الأوروبي.
ومن أجل معرفة دوافع انضمام هؤلاء الفرنسيين، من أصول عربية وإسلامية، إلى حزب لا ينظرون إليه باعتباره معادٍ للعرب والمسلمين والمهاجرين، التقت "العربي الجديد" بالقيادي السابق في الحزب، فريد سماحي، الذي كان مقرباً من جان ماري لوبان. ورداً على سؤال حول ما يقال من "عنصرية" الحزب وعن حجم المتحدرين من أصول عربية وإسلامية الأعضاء في الحزب، يجيب سماحي: "هل تتصور أني مجنون حتى أنضم إلى حزب عنصري، وأنا متحدر من الهجرة؟ انضممت للحزب، باعتزاز، على الرغم من التسميم الإعلامي ضد جان ماري لوبان. فاكتشفتُ أن هذا الرجل يمتلك قِيَماً وطنية ويُحب وطنه. ولم أفهم لماذا تمّت شيطنته، فتقربت إليه وجعل مني الرجل الذي أنا عليه، الآن: من ناخبي الجمهورية ومستشاراً إقليمياً وعضواً في المكتب السياسي، بل وأقول أكثر. هذا الرجل علّمني قيماً وطنية لم أكن أمتلكها في تلك الفترة".
هل الحزب أصبح مآلاً لليائسين والذين خيبت الأحزاب الفرنسية التقليدية آمالهم؟ يجيب سماحي: "تسألني عن فرنسيين من أصول عربية يتواجدون في أحزاب اليسار والإيكولوجيين وغيرهم، أقول لك إن الزمن تغير، فعلاً. فقد ألّفتُ كثيراً من الكتب وناضلتُ من أجل اندماج الفرنسيين من أصول مهاجرة، في الدوائر السياسية في بلدي فرنسا، ولم ينصتْ إليَّ في تلك الحقبة، أحد".
لكن ألا توجد عنصرية في الحزب؟ ينتفض سماحي: "لا توجد. فقد عايشتُ قيادات الحزب خلال عشرين سنة، وكنتُ، بصيغة ما، ابن جان ماري لوبان، بل وأكثر. أتصور أن على عرب فرنسا اليوم، اتخاذ قرارٍ فيه ولاءٌ صادق تجاه الأمّة الفرنسية. وأقدّر أن المجتمع الفرنسي ليس مؤهلاً، بعد، لقبول اسم ذي رنة مغاربيّة، لأنه يُمثّل في نظره تاريخاً يحيل إلى الزمن الاستعماري في الجزائر. إن مسألة الأسماء العربية تُشكّل عوائق أمام اندماجهم".
وعن مواقف الحزب العنيفة من المهاجرين، يرد سماحي: "لقد خلقنا في فرنسا، عن طريق ثنائية الجنسية، عِرْقاً وطنياً هجيناً. الأمر لم يعد ممكناً. وأعتقد أنه كما هو شأن المواطنين الفرنسيين الآخرين، فإن على المهاجرين، من أصول عربية، أن يضيفوا اسماً آخر إلى أسمائهم. لنَقُم بإطلاق أسماء فرنسية على أبنائنا، لنقم بهذه التجربة من أجل مستقبل أبنائنا".
وهل معنى هذا الأمر أنّ الاندماج على الطريقة الفرنسية فشل، يقر سماحي بالأمر ويقول إن "الحزب الاشتراكي الفرنسي، كما اليمين، حكَم مرات عديدة، وطيلة هذه الفترات كان يريد أن يرانا إما لاعبي كرة قدم وإما كنّاسّين. لم ينجح المدرّسون في فرنسا في تلقين الأطفال تاريخ فرنسا كله".
ورداً على سؤال عما تغيّر من فترة جان ماري لوبان إلى اليوم، يجيب سماحي: "أشياء كثيرة جعلتني أبتعد عن مارين. فإذا كان عليها، كي تصبح رئيسة لفرنسا، أن تنبطح في الكنيست، فهذا غير مقبول. وإلا لماذا لا ترشّح نفسها في الانتخابات الإسرائيلية، ما دام أن إسرائيليين هم من حملة الجنسية الفرنسية؟".
ويصرّ سماحي على رأيه وهو أن "الجبهة الوطنية هو الحزب الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ مسلمي فرنسا إذا وصل للسلطة، لأنه لن يطرد أحداً، ولكنه سيُخيّر المتحدرين من المغرب العربي وغيرهم بين الجنسية الفرنسية وبين جنسيات بلادهم الأصلية. فإن اختاروا جنسيات بلدانهم فهم مقيمون، هنا، بصفة شرعية، وإن اختاروا فرنسا ستكون لهم كامل المُواطَنة".