التعامل مع الأمن في دول الربيع العربي
يُركَّز عموماً في إصلاح القطاع الأمني، بمختلف فروعه (درك، شرطة، استخبارات، وحدات شبه عسكرية...) على: سن تشريعات واضحة، تعزيز الرقابة المدنية (الديمقراطية لعمل الأجهزة الأمنية، ميزانيتها، إخضاعها للقضاء..) على مكوناته، التكوين والتدريب والاحترافية وبناء المؤسسات... والهدف من إصلاحه إقامة أجهزة أمنية فعالة، ومهنية في أداء وظيفتها المتجددة، وهذه خدمة المواطن والوطن لا الحاكم، وخاضعة للمساءلة الديمقراطية. نكتفي هنا بالإشارة إلى تونس وليبيا ومصر. فبحكم اختلاف السياقات الوطنية والمسارات "الثورية" في الدول الثلاث، فإن فروقاً كبيرة بينها، لكنها تشترك في شيئين: انتهاك الأنظمة البائدة حقوق المواطنين وقمعهم من جهة، وإشكالية الترويض الديمقراطي للأجهزة الأمنية في الفترة الانتقالية. بيد أن المشهد الانتقالي يختلف من بلد إلى آخر، فتونس تعيش مرحلة انتقالية، تهتم أيضاً بإصلاح الأجهزة الأمنية. أما ليبيا، فانهارت منظومتها الأمنية، بانهيار النظام السابق، وتفككت أجهزتها التي حلت محلها كتائب وفصائل الثوار، وبالتالي، مشكلتها ليست إصلاح القطاع الأمني، وإنما بناؤه. وتعيش مصر وضعاً خاصاً، بسبب الانقلاب العسكري الذي أعاد الأجهزة الأمنية أداة قمعية إلى سابق عهدها، وبالتالي، فإصلاح القطاع غير مطروح في مصر.
نظراً للاستعصاء الانتقالي الحالي في دول الربيع العربي، قد تتجنب السلطة مساءلة الأجهزة الأمنية لما اقترفته من جرائم قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها. فبدل إخضاعها للمحاسبة، قد تضحي بإصلاح المنظومة الأمنية، لدواع سياسية (في مصر يواجه حكم العسكر مشكلة شرعية) وأمنية (في الدول الثلاث). ومصر مرشحة أكثر من غيرها للاعتماد على الأجهزة الأمنية، مجازفة بالعودة بها إلى بعض ممارسات الماضي، بدل القطيعة معها. وقد يربك هذا السلوك الأجهزة الأمنية، لتيقن عناصرها بعد "الثورة" بأنها قد يُضحى بها (مجدداً). ومن ثم، هناك مخاطر مقايضة: تكفل الأجهزة الأمنية بمهمة الأمن مقابل العفو، أي الإفلات من المساءلة. فالجيش في مصر بحاجة إليها، لمواجهة معارضيه وقمعهم. وبالتالي، لا مصلحة له في مساءلتها، ومن ثم، عادت هذه الأجهزة إلى سابق عهدها، من حيث الوظيفة القمعية. في تونس التي عرفت اغتيالات سياسية، وتنشط فيها جماعات إسلامية مسلحة، (وضع شبيه بما يحدث في سيناء المصرية)، السلطة الانتقالية، هي الأخرى، في حاجة ماسة للأجهزة الأمنية. وفي ليبيا، غير المستقرة أصلاً، بسبب تداعيات الحرب الأهلية، والخلاف على شكل الحكم، فإن السلطة الانتقالية بحاجة ماسة، أيضاً، لما تبقى من الأجهزة الأمنية، ولتلك المرتبطة بالكتائب التي فرضت نفسها بالأمر الواقع.
من هنا، يتضح مدى حساسية التعامل مع القطاع الأمني، وصعوبته، في المرحلة الانتقالية. فالأجهزة الأمنية التي قمعت الشعب تتذرع، في حال سقوط النظام الذي خدمته، بتنفيذها الأوامر وتطبيقها القانون. وتصير مستهدفةً من الشعب المنتفض، وترى، أيضاً، نفسها ضحية النظام البائد. ومن هنا، قد تصبح عقبة، ولو غير منظمة، أمام عملية الانتقال الديمقراطي، فقد تتراخى في أداء مهمتها، ما يجعل المرحلة الانتقالية أقل أمناً واستقراراً من مرحلة التسلطية. وعليه، فلضمان انتقال ديمقراطي سلس، يجب، أيضاً، تحديد مكانة وموقع مختلف مكونات القطاع الأمني، حتى تفهم أن الانتقال الديمقراطي يتم معها، أيضاً، وليس على حسابها، وأن ما هو على المحك ليس المنظومة الأمنية برمتها. وفي المقابل، على القائمين عليها أن يفهموا أن الأنظمة (التسلطية) آيلة إلى الزوال، بينما الدول باقية ببقاء شعوبها. ثم إن احترام المواطن الأجهزة الأمنية مرهون باحترامها القانون، لحقوق المواطن وحرياته.
وتعد هذه العناصر ركيزة توافق وطني حول مهام الأجهزة الأمنية كلها، لتكون درعاً حامياً للديمقراطية الناشئة. وبالطبع، يفترض إصلاح المنظومة الأمنية الانتقال من أمن النظام إلى أمن الدولة، لإحداث نقلة نوعية في وظيفة القطاع الأمني، بمراجعة العلاقة بين النظام والأجهزة الأمنية. ومن الأهمية بمكان، تجنب دق إسفين بين الأمن الداخلي والجيش في المرحلة الانتقالية، لأن ذلك يضر بهما، وباستقرار البلد وأمنه.
يشيد بعضهم في تونس بموقف الجيش، بينما يستهجن موقف الأمن الداخلي، والشيء نفسه يقال عن الشرطة ومباحث أمن الدولة في مقابل الجيش في مصر، إلا أن موقف الجيش (أثناء الثورة) في البلدين لا يمكنه حجب الرؤية عن ممارساته في الفترة الانتقالية (حالة مصر – حكم العسكر الانتقالي قبل انتخاب مرسي والحكم الانقلابي الحالي)، كما أن الجيش في البلدين كان عماد التسلطية.
تصرف الأجهزة الأمنية معيار أساسي في قياس التسلط والديمقراطية. ففي ظل التسلطية، تكون هذه الأجهزة، بسلوكها القمعي، الجزء الظاهر من السلطة التسلطية للأنظمة الحاكمة. وفي الأنظمة الديمقراطية، يكون سلوكها دلالةً على مدى التقدم الديمقراطي. وعليه، سيكون سلوك الأجهزة الأمنية في دول الربيع العربي دلالة على القطيعة مع الإرث التسلطي، أو دلالة على عودة ممارسات قديمة بحلة جديدة.