التعامل مع اليمين المتطرف في فرنسا
يتبادل اليسار واليمين في فرنسا الاتهامات بشأن صعود اليمين المتطرف، وفي الوقت نفسه، يغازلان ناخبيه لاستمالتهم وربح ولائهم. وازداد النقاش والتراشق السياسي حدة في سياق حملة الانتخابات الولائية (انتخابات المجالس البلدية) التي ستُجرى، خلال الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، بين الحزب الاشتراكي الحاكم (حزب الرئيس الحالي فرانسوا هولاند) والحزب اليميني المعارض الاتحاد من أجل حركة شعبية (حزب الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي الذي يترأسه مجدداً تحسباً لرئاسيات 2017).
يقول اليسار إن اليمين هو السبب في صعود الجبهة الوطنية، لأنه تبنى مقارباتها في ما يتعلق ببعض القضايا التعبوية، مثل الهجرة والأجانب والأمن... كما يعيب عليه عدم التمييز بين اليسار واليمين المتطرف، في إشارة واضحة إلى رفض (رغم أصوات معارضة بداخله) حزب ساركوزي المفاضلة بين مرشح الحزب الاشتراكي ومرشحة الجبهة الوطنية في انتخابات تشريعية جزئية في دوب (جنوب شرق باريس)، وفاز فيها المرشح الاشتراكي بفارق ضئيل جداً، بسبب تصويت جزء من ناخبي اليمين الجمهوري لمرشحة الجبهة الوطنية.
أما اليمين الجمهوري فيقول إن اليسار هو المسؤول، مذكراً باستراتيجية الرئيس الاشتراكي، فرانسوا ميتران، الذي وظف اليمين المتطرف لضرب اليمين الجمهوري. كما يقول إن تخاذل الاشتراكيين في التكفل بمسائل الهجرة والأمن (ينتقدون بحدة القوانين التي سنتها وزيرة العدل الحالية، لأنهم يعتبرونها متسامحة مع المجرمين ومتجاهلة ضحاياهم) ساهم في تصلب عود اليمين المتطرف.
يشكل اليمين المتطرف خنجراً في خاصرة اليمين الجمهوري، ويضعه، دائماً، أمام معضلات كبيرة. فلما يتبنى مقارباته في ما يتعلق بالهجرة، مثلاً، فهو يميع الحدود الإيديولوجية التي تفصل بينهما، وحتى وإن نجح في استمالة جزء من ناخبي الجبهة الوطنية، فإنه يخسر، في الوقت نفسه، جزءاً من ناخبيه من تيار الوسط. ثم إن تبنيه مقاربات متطرفة يعنى الإقرار بأن الجبهة الوطنية هي من يحدد أجندة النقاش السياسي في البلاد، ومن يوجه بوصلته. وهذا أمر يتفاخر به حزب مارين لوبان التي تقول إن حزبها وحده القادر، اليوم، على تحديد مضامين النقاش الوطني. أما اليمين الجمهوري فيرد قائلاً إن القضايا الإشكالية، مثل الهجرة والأمن، ليست حكراً على الجبهة الوطنية، بل هي قضايا تخص كل الفرنسيين، وعلى الأحزاب التكفل بها، حتى لا يوظفها اليمين المتطرف.
ويستغل الحزب الاشتراكي معضلات اليمين الجمهوري. لكنه يسير على خطاها، لأنه بدأ يتعامل مع القضايا الإشكالية (الهجرة، الأجانب، الأمن، الإسلام) وفق مقاربات يمينية، بشكل أو بآخر (تعامل الحكومة الحالية مع الغجر مثلاً)، فضلاً عن تمييعه الحدود الأيديولوجية تدريجياً، الفاصلة بينه وبين اليمين الجمهوري في المجال الاقتصادي (الخيارات الاقتصادية للحكومة الاشتراكية الحالية يمينية في الكثير من مضامينها). وفي مراهنته على زعزعة اليمين المتطرف لليمين الجمهوري مخاطر جمة، لسببين على الأقل: إضعاف اليمين الجمهوري يعني حسابياً تقوية اليمين المتطرف، لأن ذلك يزيد من نزيف الناخبين من الأول باتجاه الثاني. ثانياً، تنامي ظاهرة تصويت جزء من الطبقات الشعبية، اليسارية التوجه، لصالح اليمين المتطرف، كما تأكد ذلك في الانتخابات المحلية الأخيرة. وحال الحزب الاشتراكي في تعامله مع اليمين الجمهوري كحال المستجير بالرمضاء من النار، فهو يريد إضعافه، وإذا به يدعم الجبهة الوطنية. وإن كان فرانسوا هولاند أكد، حسب بعض المصادر، أن الخصم الذي يجب محاربته، حالياً، ليس اليمين الجمهوري، وإنما اليمين المتطرف، لخطورته على المجتمع الفرنسي.
هكذا أصبحت الجبهة الوطنية الحكم في الصراع السياسي الدائر بين الحزبين الكبيرين. وسوء إدارتهما الصراع جعلت الجبهة، على الرغم من ثقلها الانتخابي المقرر لمضامين النقاش. وهنا يكمن فشل النخبة السياسية الجمهورية، فسياستها هي التي ساهمت في تصلب عود اليمين المتطرف، وبدل إعادة النظر فيها تنساق وراء أطروحاته، وتسعى إلى استمالة ناخبيه. وهناك عدة أوجه للخلل في سياسة التعامل مع الجبهة الوطنية.
يكمن الأول في قلب الأمور رأساً على عقب، فمنطق الأشياء يقول إنه يجب، بداية، بذل الجهد اللازم لوقف نزيف الناخبين (من اليمين واليسار) نحو الجبهة الوطنية، بمعنى الإبقاء على الناخبين اليساريين واليمنيين الجمهوريين في "أسرهم" السياسية، ثم السعي إلى استرجاع ثقة من التحقوا بالجبهة الوطنية. وليتحقق ذلك، يجب تغيير السياسات التي جعلت هؤلاء يعزفون عن التصويت للحزبين التقليديين اللذين يتداولان على السلطة منذ عقود. ويتجلى هذا الخلل في تصريح فرانسوا هولاند الذي أعلن، الأسبوع الماضي، أنه "يتعين افتكاك الناخبين من الجبهة الوطنية". وهو منطق يقول به اليمين الجمهوري، أيضاً، ولو بمفردات مغايرة. هكذا تتعامل الأحزاب مع الناخبين، وكأنهم عديمو الأهلية وملكية لهذا الحزب أو ذاك. وهو طبعاً تجاهل لواقع السلوك الانتخابي الذي يختلف باختلاف طبيعة الاستحقاقات الانتخابية (التصويت في الرئاسيات يختلف عنه في المحليات).
الوجه الثاني هو صيد الحزبين التقليديين في المياه السياسية العكرة لليمين المتطرف، فأصبحا، في الغالب، في موقف رد الفعل وليس الفعل. فعوض تغيير السياسات الحالية لتحسين ظروف معيشة الفرنسيين من جهة وفضح مواقف وبرامج اليمين المتطرف بالتحليل والأرقام وتقديم مادة إعلامية مقنعة، دخل الحزبان في مزايدات سياسية، باسترجاع بعض قضاياه الشعبوية والتنديد بتطرفه، إلى درجة أن المشكلات الاقتصادية تراجعت، في الأجندة السياسية-الإعلامية (من حيث الحيز المخصص لها) لصالح المزايدات والخلافات حول التعامل مع الجبهة الوطنية.
الوجه الثالث هو الاعتقاد السائد لدى الحزبين التقليديين بأن الجبهة الوطنية متطرفة، أما ناخبوها فغير متطرفين. وهذا منطق مثير للتحفظ. في السابق، كان ناخبون يصوتون للجبهة الوطنية في الدور الأول، وللأحزاب الجمهورية في الدور الثاني، أما اليوم فالتصويت الاحتجاجي تحول إلى انخراطي (عن قناعة). ثم ماذا يفعل أناس معتدلون، أو يعتبرون كذلك، في حزب في غاية من التطرف؟ من الصعب القول إن جميع ناخبي الجبهة الوطنية متطرفون، لكن الواضح أن جزءاً كبيراً منهم مقتنعون بأطروحاتها المتطرفة، خصوصاً أنهم يلاحظون أن أحزاباً جمهورية تركب موجة بعض مقارباتها الشعبوية، ما يساهم في تمييع الحدود الأيديولوجية. لا شك أن جزءاً من هؤلاء الناخبين مقتنع بالمواقف المتطرفة للجبهة، وجزء آخر يصوت لها نكاية في الأحزاب التقليدية. لكن النكاية ليست الخير الوحيد، فهناك وسائل ديمقراطية مصل المقاطعة أو التصويت الأبيض.