التعليم عن بُعد... سلاح ذو حدّين
أدّى الانتشار المتسارع للإنترنت في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إلى حدوث تغيرات لم يتوقعها الإنسان من قبل، فبعد أن كان استخدام الإنترنت مقتصرًا على الأعمال التجارية، والتراسل بواسطة البريد الإلكتروني، والتواصل عبر مواقع الدردشة، باتت خدمة الإنترنت الآن حاضرة في كل مكان، ومتاحة دائمًا ضمن الهواتف المحمولة الذكية، ومختلف الأجهزة الأخرى. ولم يتوقف ذلك عند هذا الحدّ، بل غيّر كثيرًا من الثوابت التقليدية التي اعتاد النّاس عليها، ومن بينها التعليم الذي تماشى مع الانطلاقة الهائلة للإنترنت والحاسوب في العصر الحديث.
تظهر الصورة التقليدية للتعليم جليةً في اجتماع الطلاب داخل الصف برفقة المعلم من أجل تدارس منهاج دراسي، وتنفيذ دروسه، بما يتوافق مع طبيعة محتواه، فقد يستخدم المعلم الشرح المباشر، أو التلخيص على السبورة، أو تطبيق أحد أشكال التعلّم الحديثة في الغرفة الصفية، أو الانتقال إلى غرفة مجهزة بالأدوات والوسائل المساندة للتعليم. ومع اندماج التكنولوجيا الحاسوبية في التعلّم، صارت أساليب التدريس أكثر تنوّعًا وقابلية لمحاكاة عقول الطلاب، وتوصيل المعلومات والأفكار لهم بطريقة جاذبة، من خلال توظيف ما يقدمه الحاسوب من برامج تعليمية ورسومية تساعد على تطبيق الدروس بأفضل صورة ممكنة.
اعتمدت العملية التعليمية المتشاركة مع الإنترنت والحاسوب على نمذجة التعليم وتأطيره ضمن تعلّمٍ حاسوبي صفي أو في نطاق منظومة تعلّم تكنولوجية، لينتقل التعليم تدريجيًا من صورة التلقين المتعارف عليها إلى صورة أكثر حداثة، وصولًا إلى توظيف المنصات والتطبيقات الرقمية التي تشارك في بناء نمط تعليم جديد، ومعتمد على وجود المعلم والطلاب خارج الغرفة الصفية، واجتماعهم جميعًا عبر واحدة من هذه المنصات أثناء وجودهم داخل المنازل أو أي أماكن أخرى، ثم يقدم المعلم شرحًا للدرس، ويتفاعل معه الطلاب عبر الصوت والفيديو المنقول مباشرةً. وأطلق على هذا النوع الحديث من التعليم اسم "التعليم عن بُعد"؛ لأنه يختلف عن الشكل النمطي للتعلّم والتعليم المعتاد والتقليدي.
تجتمعُ سلبيات التعليم عن بُعد في صعوبة وصول بعض الطلاب إلى المادة المشروحة لأسبابٍ كثيرة، مثل عدم امتلاكهم أجهزة تساعدهم على المشاركة في التعلّم
لاقى التعليم عن بُعد ازدهارًا ملحوظًا في السنوات الماضية، بسبب استحداث بيئة تعليمية خصبة حافظت على وجوده، فوظّفته المدارس والجامعات في برامجها الدراسية، بغرض تمكين الطلاب من الوصول إلى المحتوى التعليمي الذي يبحثون عنه بسهولة، وتعزيز ربطهم واتصالهم مع معلميهم خلال الأوقات خارج الدوام الرسمي، كما ساهم في استقطاب طلاب من دول أخرى لا تتواجد فيها فروع للمؤسسات التعليمية، وهكذا أتاح هذا النظام التعليمي لكثيرٍ من الطلاب الحصول على الشهادات الأكاديمية بسهولة. وفي سنة 2020 ازداد رواج التعليم عن بُعد مع انتشار جائحة فيروس كورونا، التي أثّرت سلبيًا في عددٍ من المجالات، وكان للتعليم نصيب منها.
وفّر التعليم عن بُعد وسائل وأدوات عززت من استمرار التعليم في ظلِّ جائحة كورونا التي ضربت العالم بأسره، ولكن في المقابل ككل الأشياء التي تحمل وجهين إيجابي وسلبي، امتلك التعليم عن بُعد هذان الوجهان، فأرى أنه سلاحٌ ذو حدّين، فمن الإيجابيات التي قدّمها مشاركته في استدامة تزويد الطلاب في المادة الدراسية، وشروحاتها، وتفاصليها الأخرى، من خلال دور المعلمين في إنشاء قنوات اتصال مع طلابهم، وأيضًا أتاح للطلاب إمكانية متابعة دروسهم في أي وقت خلال اليوم.
وتجتمعُ سلبيات التعليم عن بُعد في صعوبة وصول بعض الطلاب إلى المادة المشروحة لأسبابٍ كثيرة، مثل عدم امتلاكهم أجهزة تساعدهم على المشاركة في التعلّم، كما قد تستخدم فئة من الطلاب أسلوب الخداع في متابعة الدروس، والاعتماد على غيرهم في تقديم الامتحانات. وعلى صعيد التعلّم بشكل عام، قد لا يفلح التعليم عن بُعد في تحقيق التفاعل المرجو بين المعلم والطالب، تحديدًا في شرح بعض التطبيقات والأنشطة العملية التي تحتاج إلى أن يجتمعا معًا في غرفة صفية واحدة، أو مختبر، أو مشغل مجهز بالأجهزة والأدوات اللازمة.
إن تجربة التعليم عن بُعد المطبقة في أغلب دول العالم، تعدّ من التجارب المميزة على المدى الطويل في البيئة التعليمية بكل الإمكانات المساندة التي وفّرتها، مع الأخذ بعين الاعتبار محدودية تطبيقها في الأماكن التي لا يمكن توفير وسائل التعليم عن بُعد فيها، ومن هنا تأتي ضرورة متابعة جميع المعطيات المترتبة على هذا النوع من التعلّم قبل المباشرة في تفعيله كنمطٍ تعليمي، والذي يضمن تحقيق أهدافه بكفاءة، وأهمها دوره في الحفاظ على استمرارية التعلّم، ورفع المستويات العلمية والفكرية والثقافية لدى جميع الطلاب.