الجزائر ومعضلة تأمين الحدود
تعتبر مسألة تأمين الحدود الجزائرية معضلة أمنيةً بكل المقاييس، ليس بسبب مشكلات داخلية، وإنما بسبب الاضطرابات المتنامية في دول الجوار المغاربي-الساحلي. وتأمين الحدود معادلة بسيطة، لأنها تقتضي وجود طرفين مقتدرين، يتفقان على تأمين حدودهما المشتركة، أي وجود دولتين تسعى كل منهما إلى جعل حدودها آمنة ومستقرة. وهنا مكمن المشكلة، ذلك أن انهيار الدولة في ليبيا، وجزئياً في مالي، جعل حدود الجزائر معهما وليبيا منكشفة تماماً، وصارت منطقة عدم استقرار، بالنظر إلى تنامي التهديدات غير دولتية (نسبة إلى الدولة) المصدر. ففي السابق، كانت العلاقات بين الدول السبب في المشكلات على الحدود، سواء تعلق الأمر بخلافات حول ترسيمها، أو بتردّي الأوضاع الأمنية جراء الصراعات المحلية، لكن، اليوم، التهديدات غير الدولتية هي سبب الاضطرابات على الحدود، نتيجة ضعف الدولة أو غيابها.
فحدود الجزائر الطويلة عرضة كلها للتهديدات غير دولتية المصدر، لا سيما نشاط الجماعات الإرهابية، وتنامي الجريمة المنظمة، خصوصاً تهريب الأسلحة والبضائع والمخدرات وتهريب الأشخاص (شبكات الهجرة السرية)، بيد أن حدودها مع ليبيا، ومع مالي، وجزئياً مع تونس، هي اليوم الأكثر اضطراباً وخطورة، بسبب فشل الدولة وعجزها عن فرض سلطتها على كل أجزاء ترابها وعلى حدودها، خصوصاً فيما يخص الحالتين الليبية والمالية.
فالحدود مع ليبيا تعرف حالة من عدم الاستقرار، بالنظر إلى أزمات ليبيا السياسية، والصراعات المسلحة، إلى درجة أن أجزاءً منها لا تتحكم فيها قوات حكومة، أو تابعة لها، وإنما تسيطر عليها ميليشيات متناحرة، ترفض الاعتراف بالسلطة الليبية الجديدة. ومن ثم، لم يعد هناك طرفان لتأمين الحدود المشتركة، لأن الطرف الجزائري يجد نفسه أمام أطراف متعددة، وبما أن الجزائر ترفض التنسيق والتعاون الأمنيين مع المجموعات الليبية المسلحة، التي تتحكم في الجانب الليبي للحدود، فإنها مجبرة على بذل مزيد من الجهد، لـتأمين حدودها. هكذا جعلها انهيار الدولة الليبية القوة الوحيدة القادرة على تأمين الحدود المشتركة بين البلدين، خدمة لمصلحتها ولمصلحة ليبيا. ومن ثم، فإن سيطرة الميليشيات على جزء من الحدود على الجانب الليبي يجهض التعاون والتنسيق الأمنيين بين البلدين. فبسبب التفاعلات والتداعيات العسكرية للصراع على السلطة في ليبيا، فإن أجزاء من الحدود أصبحت خاضعة لميليشيات. وهذا ما يعقد الأمور، لأن تردي الوضع الأمني قد يجبر الجزائر على الدخول في مواجهةٍ مع ميليشيات لتأمين حدودها. يعود بنا هذا الأمر إلى نقطة التحليل الأولى، أي غياب الدول، أو فشلها، سبباً لتنامي التهديدات غير دولتية المصدر في المنطقة، وهذا ما يجعل إحلال الأمن والاستقرار في المناطق الحدودية مهمةً في غاية من التعقيد.
أما الحدود مع مالي فتعرف تقريباً الإشكالية نفسها، ولكن الوضع مختلق بعض الشيء. فالدولة المالية فاشلة هي الأخرى، وأصبح شمال البلاد ملاذاً ومعقلاً للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة. بيد أن الوضع يختلف بعض الشيء عن ليبيا. فالأطراف الفاعلة في شمال مالي، والمتمثلة في الحركات الأزوادية، لا تكنّ عداء للجزائر، حتى وإن كانت لا تشاطرها كلها نظرتها إلى الأزمة المالية، وتصورها لتسويتها، بمعنى أن هذه الحركات ليست مصدر تهديد لأمن الجزائر القومي، على عكس الميليشيات الليبية المعروفة بعدائها للجزائر. نقطة الاختلاف الأخرى تتمثل في التدخل العسكري الفرنسي في مالي، الذي ضغط، بشكل كبير، على الجماعات الإرهابية، التي تنشط في شمال مالي، حتى وإن لم يدمرها، فإنه حدّ من قدرتها على إلحاق الضرر بدول المنطقة، ولو إلى حين. وعليه، لا تفتقر الجزائر في الحالة المالية إلى شريك، لأن الدولة المالية، على الرغم من عجزها، تبقى شريكاً على طول الحدود. وربما هنا نقطة الاختلاف الأساسية مع ليبيا، فالهدف المشترك لكل من الجزائر وفرنسا ومالي، هو تجنب سقوط أجزاء من الحدود على الطرف المالي تحت سيطرة جماعات إرهابية و/أو إجرامية. لكن، يبقى تأمين الحدود الجزائرية مع مالي مرهوناً بالتوصل إلى تسوية سياسية لأزمة الأزواد، حتى لا تكون مطية لحركات إرهابية.
أما الحدود مع تونس فيختلف وضعها، ذلك أن الدولة التونسية لا تعرف مشكلات سياسية كبرى، تهدد بفشلها، وإنما تمر بمرحلة انكشاف أمني، بسبب المرحلة الانتقالية، كما أن هذه الحدود غير طويلة، مقارنة بالحدود مع ليبيا ومع مالي. وتكمن مشكلة الحدود مع تونس، أساساً، في استيطان جماعات إرهابية في المناطق الجبلية الشرقية على الحدود مع الجزائر، ما يخلق مشاكل أمنية للبلدين. وهذا الوضع المختلف هو الذي يفسر الدرجة العالية من التنسيق والتعاون الأمنيين بين الجزائر وتونس، حيث تجد الجزائر في هذه الأخيرة شريكاً حقيقياً. وتدعم الأولى الثانية بشكل واضح أمنياً واقتصادياً (دعم مالي)، مما يدل على درجة عالية من التوافق السياسي بين البلدين.
على الرغم من اختلاف الوضع من حدود إلى أخرى، فإنها تشترك كلها في نقطةٍ أساسية، هي قلة، إن لم نقل غياب، الإمكانات المالية والبشرية لدى كل من ليبيا ومالي وتونس، بينما هذه الإمكانات متوفرة لدى الجزائر، مما يجعل الأخيرة تتحمل وحدها جزءاً ضخماً من المجهود الأمني، لتأمين الحدود مع جيرانها. بالطبع، الكلفة مرتفعة للجزائر، لكن، هذا من مسؤوليتها الإقليمية، ليس فقط لخدمة أمنها القومي، وإنما لمساعدة جيرانها، لتجاوز هذه المحن، خصوصاً وأنه يستحيل الفصل في عالم اليوم بين الأمن القومي لكل دولة من الدول المجاورة.