الجندي المجهول
عندما تكون صغيرًا، فأنت بالطبع تضع في ذهنك صورةً مرعبة للقبور والمقابر. ولا بدّ أنّ حكايات الجدّات عن الأشباح قد ساعدت كثيرًا في زيادة جرعات الرُّعب التي تنتابك، حين ترى شاهد قبر، من بعيد، فكيف إذا ما مررتَ بجوار القبر، كلَّ يوم، وقاربت أن تهوي إلى جواره؛ بفعل الكثبان الرمليّة الناعمة المحيطة به؟ أعتقد أن الأشباح والمسوخ سوف تصبح زائرًا ليليًّا معتادًا لنومك، كلَّ ليلة. وهذا ما كان يحدث معي. ولم أكن لأجرؤ أن أخبر به أحدًا، حتى انتقلت من المدرسة الابتدائيّة، ولم أعد أسلك طريق المقبرة المهجورة التي تقع غربيَّ المدينة، وتفصل ما بين المدينة ومخيَّم اللاجئين.
في أواخر سبعينيّات القرن الماضي، كان يتحتّم عليَّ أن أمرّ مع أبي واخوتي، في الصباح، بجوار مقبرة صغيرة. أخبَرَنا أبي بإيجاز أنها تضمّ رفات شهداء من الجيش المصريّ الذين حاربوا مع الشعب الفلسطينيّ في 1967. ولكن في ساعات العودة من المدرسة مع الظهيرة، وكنت أعود مع زميلاتي الصغيرات، فقد كنَّ ينسجنَ رواياتٍ مخيفة ومرعبة سمعنها من الكبار، عن هذه المقبرة النائية، والمنفردة. ولذلك كنت أعيش أيًّاما سُودًا؛ بسبب ما يعدن ترديده، في ساعات الظهيرة. وفي الصباح، كان أبي يبثّ طمأنينة في قلبي، سرعان ما تطغى عليها الخرافة، وأعيش في رعب مقيم. وهكذا تأرجحتُ بين خوفٍ وطمأنينة؛ حتى مرّت سنوات المرحلة الابتدائيّة، غير مأسوفٍ عليها، وكبرت، وعرفت قصّة المقبرة المجهولة، بالتفصيل.
كانت هذه المقبرة، أو القبر الجماعيّ، يضمّ جثامين أواخر شهداء فلسطينيّين ومصريّين، من جنود الجيش المصريّ، ممن كانوا يدافعون عن فلسطين، إبَّان حرب العام 1967. وحيث تمركز ثلاثة جنود مصريّين في الجهة الغربية، من مدينة خان يونس، جنوبيّ قطاع غزة، وظلُّوا يستخدمون مدفعًا يُبرِّدون محرِّكه بالماء، ويمنعون جنود الاحتلال من التقدُّم، نحو المدينة، حتى أغارت عليهم طائرةٌ أمطرتهم بالقذائف؛ فاستشهدوا جميعًا، ومزّقت أجسادهم، ولم تعرف هُويَّاتهم، فجمعهم السكّان في قبر واحد، وفي المكان الذي استشهدوا فيه، وكُتب على الضريح "الفلسطينيّون والمصريّون الثمانية الذين استشهدوا في حرب حزيران/ يونيو عام 1967". وكان من الطبيعيّ أن يتآكل الضريح في الكثبان الرمليّة، بمرور الزمن؛ ما أوحى بتلك الأساطير عنه، خصوصا أنه يقع بالقرب من المستشفى الوحيد في المدينة، وبالقرب من الركن المخصَّص كثلّاجة للموتى، حتى تمّ تجديده، وتعيين حارسٍ عليه، في 1994.
قبل أيّام، تكرّرت قصة لشهيد من الجيش الأردنيّ من كتيبة الحسين الثانية. روى قصته أحدُ شهود العيان، ونقلها أولاده وأحفاده، من بعده. جاءت به دوريّة عسكريّة إسرائيليّة إلى منطقة زعترة المحاذية للشارع الرئيسيّ، الواصل بين القدس ونابلس. ويبدو أنه وقع أسيرًا، وطلبوا منه النزول من الجيب العسكريّ، والتقدُّم إلى الأمام، ثم العودة، ثم أمطروه بالرصاص، وغادروا. وبقيت جثّته في المكان أسبوعين. وكان الأهالي الذين فقدوا أبناءهم يأتون خلسة؛ لتفقُّد ملامحه، لكن أحدًا لم يتعرّف عليه. وبعد أن هدأت الأوضاع، استدعى جنودُ الاحتلال موظّفين، من دائرة الأشغال العامّة، في مدينة نابلس، وطلبوا منهم دفن الجثمان، واستعان الموظّفون بسكّان من المنطقة؛ لمساعدتهم في أعمال الحفر والدفن، ولم يعثروا معه على ما يدلّ على هُويّته. كان شابًّا في بداية الثلاثينيّات ببشرة سمراء، وقامة طويلة، وظلّ اسمه "القبر المجهول". حتى قرّر الاحتلال تحريك آليّاته العسكرية؛ من أجل ردم القبر، ومسح معالمه؛ تمهيدا لشقّ طريق استيطانيّ، ضمن مخطَّط الضمّ في الضفة الغربية، فثار أهالي قرية بيتا، ومنعوا هدم القبر؛ فهم لم ينسوا هذا الشهيد الذي جاء إلى بلادهم؛ دفاعًا عنها، وحملوا رُفاته إلى مقبرة الشهداء في المدينة، بعد أن أقيمت له مراسم جنازة رمزيّة، وسارت بها النساء الفلسطينيّات، وسالت دموعهنّ، وكأنه قد سقط شهيدا لتوّه.
ولكن أحدًا لم يخبرني عن خرافة، أو أسطورة، دارت هناك حول قبر الجنديّ المجهول.