الخادمة وصاحبة السعادة
مرّت ثلاثة عشر عامًا على آخر زيارة لي إلى مصر. بعدها لم أخرج من قطاع غزة المحاصَر، ولكن بقيتْ معي ذكرى لا تُنسى لإنسانة بسيطة، أرادت أن تعبِّر لي عن مشاعرها الممتنَّة؛ فمنحتني غطاءَ رأسٍ مزركشًا، من تلك الأغطية التي تضعها الفلّاحات المصريات على رؤوسهن، على سبيل التزيُّن، وقد عدتُ بذلك "المنديل"، واحتفظت به كلَّ هذه السنين. وفي كلِّ مرَّة أراه غافيًا في أحد أدراجي، أُقرئ صاحبته السلام، وأتساءل بيني وبين نفسي: أين وصلت بها الحياة اليوم؟
اسمها فكيهة، والاسم نفسه يضع في مخيّلتك صورةً لصاحبته، فهي ذات بشرة سمراء محبَّبة، وقامة طويلة، وشعر مسدَل طويل، ناعم كالحرير، وقد قدِمت من قريتها تُجاه عروس البحر، الإسكندرية، مع رضيعتها وزوجها؛ بحثًا عن الرزق، فعمل زوجها الشابُّ المفتول العضلات حارسًا للبناية التي أقمتُ فيها، فيما تنقَّلتْ فكيهة بين الشقق السكنية، في الطوابق المختلفة؛ للعمل في التنظيف هنا وهناك. وقد لفتني أنها تهتمُّ بنظافتها الشخصية، ونظافة طفلتها، ولا يمكن أن يتصوَّر المرء أن فكيهة تغسل أسنانها، كلَّ صباح؛ فتبدو لامعةً برَّاقة، كما أنها تغسل يديها، باستمرار، بعد كلِّ عمل تقوم به، حتى تصوَّرتُ أنها مصابة بفوبيا النظافة.
جمعتني بها أحاديث كثيرة، وعلمت منها أنها تنحدر من أسرةٍ ريفيَّة بسيطة، وقد افتتحتْ في قريتها كُشكًا صغيرًا، تبيع فيه الحلوى للأطفال، ومن ربحها جمعت مبلغًا لمصاريف زواجها. وفي يوم عودتي إلى بلدي، كانت تمنحني غطاء الشعر الزهري المزركش، وتخبرني بأنه عزيز على قلبها، فقد اشترتْه من مالها، ضمن أغراض "جهاز" زواجها. وعدتُها بأن أحافظ عليه، منحتُها مبلغًا صغيرًا؛ من أجل طفلتها، وفرَّقتنا الأيام والمسافات، ولكنني لم أنسَ فكيهة، ولا رائحتها الزكية التي يفوح منها صابونٌ بلديٌّ مصريٌّ شهير، تملأ إعلاناتُه الشوارع وواجهات البنايات.
تذكّرتُ فكيهة، حين قرأت مقالًا مُستعادًا لـ"صاحبة السعادة"، إسعاد يونس، عن فتاة صغيرة، وفقيرة قدمت من الرِّيف؛ للعمل خادمة في بيت عائلتها، اسمُها فتحيَّة. شعرتُ بذلك الكمِّ من الازدراء والسخرية من هذه الخادمة، وكان أكثر جوانب سخرية القلم الساخر، الممثلة، والمنتجة، والمذيعة، وصاحبة الأعمال الاستثمارية، من ملامح تلك الفتاة التي لا ذنبَ لها فيها، ولا جريرة؛ فهي في الأصل والنهاية خلقة الله، كما ملامح إسعاد وغيرها من البشر.
كما كتبتْ إسعاد، جاء بالخادمة فتحيَّة والدُها للعمل خادمة؛ ما يعني أن الفقر قد بلغ مبلغه بهذه الأسرة الريفية، ولكنها لم تلتفتْ إلى ذلك، وأسهبت في وصف مظاهر قذارة الطفلة الصغيرة، وكذلك أنها لم تفلح في تعلُّم شيء، في فيلّا عائلتها. وهذا يدلُّ على أن الطفلة، وبسبب سوء تغذيتها، والأمراض الجلدية التي نالت من صحَّتها، ربما كانت تعاني من تخلُّفٍ عقليٍّ، أو من قصور في الذكاء؛ فهي لم تتعلَّم شيئًا، على عكس ما يشاع عن القَرويات؛ أنهنَّ لمَّاحات وفطِنات، كما أن الفتاة التي تحضر للعمل في بيت عائلة ثريَّة تكون حريصةً على إرضاء أهله، وتتبُّع مواضع إعجابهم، وتصبح، بعد فترة قصيرة، كأنها أحد أفراد هذا البيت؛ حرصًا منها على لقمة العيش. ولكن ذلك لم يحدث مع الخادمة فتحيَّة التي كسرت زهرية ثمينة؛ فنالت علقةً ساخنة، لم ترحم طفولتها، وولَّت الأدبار؛ هربًا من ذلك البيت.
قصّة هروب الخادمة الصغيرة جريمة، يُفترض ألا تنام عينُ إسعاد وأسرتها بسببها. ولكن ذلك لن يحدث، أمام تغطرُس أمثال إسعاد، وحرصهم على مصالحهم الشخصية، وتلوُّنهم، بحسب أهوائهم. وقد أشارت إسعاد، في مقالها، إلى تاريخ محدَّد لهروب تلك الخادمة، 30 يونيو/ حزيران، في إشارة ضمنية منها إلى تاريخ إسقاط الإخوان المسلمين. وربما دفعني تحديد هذا التاريخ بدقّة إلى الاعتقاد أن القصة مختلقة، ومن بنات أفكار صاحبة السعادة، وهي، في هذه الحالة، سارقة السعادة، التي سأشكرها فقط؛ لأنها دفعتني إلى الحنين لذكرياتي مع فكيهة، وتحرّي أخبارها من جديد.