الخلاف على الخلافة
أعلنت مجموعة غامضة المنشأ والتطور والمآل، تسمى "داعش" أساساً، وفي التفسيرات الجارية الدولة الإسلامية في العراق والشام، قيامَ الخلافة أو عودتها، في ظلّ دهشة مصطنعةٍ، عبّرت عنها مجموعات حكومية، وأخرى سياسية، وثالثة أهلية ورابعة دينية.
وبعيداً عن القراءة المباشرة للأحداث، ومتابعتها بتفاصيلها وبتحولاتها المختلفة، وبعيداً عن التشفي غير الأخلاقي، الظاهر لدى مراقبين ومحللين، بمن آمن يوماً بأن تغييراً ديموقراطياً قابلٌ للحدوث في دول المنطقة، وبعيداً عن الشعور بالخيبة إلى حد الانهيار والتراخي لدى نخبةٍ، صدّقت، ذات نهار، بأنها ستعيش مستقبلاً أقل استبداداً وأكثر حرية وازدهاراً. وبعيداً عن عجزٍ مرضي، يُقارب حدود السادية لدى جهات أوروبية، حاكت واحتكت بكل أنماط الديكتاتوريات الدينية والمالية والعصاباتية والعسكرية، من دون أن يرفّ لها جفن أو إصبع، وبعيداً عن غموض أميركي، أوبامي المنشأ، لا غبار على ميوعته وانفصامه. وبعيداً عن تعنّت روسي، أسبغ عليه الصقيع السيبيري سينيكية متقدمة، وبعيداً عن مخطط إيراني هادئ المسار، على الرغم من ضحاياه، وبعيداً عن أدواتٍ متعسكرةٍ، أو متدينةٍ للقاصي وللداني في المشهد الإقليمي. وبعيداً عن سياسات تركيا المضطربة، وترشيحات أردوغان المقتربة، وبعيداً عن الصهيونية العالمية، ومخططاتها الاستيطانية والعنصرية التي ما فتئت تتغذّى، وتسمن طوراً بعد طور .....
بعيداً، إذن، عن هذا كله وذاك وما إلى ذلك، يُستحسن وضع مرآة واسعة المساحة، وواضحة الانعكاس أمام الخطاب الديني لأصحاب الشأن، أو من تنطّح ليكون صاحباً أو صديقاً أو راعياً أو دليلاً أو داعياً للشأن وأخواته.
فعملية التجهيل، وحظر التفكير، أو تقييده وتوجيهه باتجاهات سقيمة وغيبية وغرائبية، لم تتوقف منذ القرون الوسطى، حيث أغلق عنوة باب الفلسفة والتفكير والاجتهاد. والعودة إلى هذه العصور، تجعلنا لا نرمي بثقل اللائمة كله على أهل الاستبداد السياسي والديني المعاصرين، منا وفينا، على الرغم من آثامهم و"إنجازاتهم" المُميتة في جسد الفكر والمفكرين. فالعدل واجب، وتوزيع المسؤوليات حق.
ومن خلال وقفةٍ مؤلمةٍ على الأطلال، يطيب التذكير بتسميات أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، في زمن التنوير والإبداع الفكري، المستند على فهم صحيح وقراءة مؤنسنة لفعل الإيمان من أي وجهة أتى. وقد حادثني بهذا الشأن فيلسوف فرنسي واسع المعرفة وعميقها، عن عصر النور الذي عبر من خلاله عرب ومسلمون، وبعض من عايشهم وعاش معهم واعتاش منهم، روحاً وفكراً وجسداً. كان الحديث يجري، حسب صديقي أستاذ الفلسفة في كوليج دو فرانس، عن اليهود والمسيحيين والفلاسفة.
أين غاب المسلمون إذاً؟ ما هذا الإجحاف والغبن الذي يرمي بثقله عليهم، وعلى إنجازاتهم وعلى فكرهم؟ أين الخطأ في هذا التوصيف؟ ربما كان هو عين الصواب، فالمقصود، أخيراً، هو أن المسلمين هم الفلاسفة. المسلمون هم فلاسفة العصر، ودينهم أوسع من أن يكون مجرد نصّ، يشابه نصوصاً أخرى، مهما علا شأنها. ومحاكات نخبهم وعلمائهم لهذا الدين كان جزءاً من العملية الفلسفية الراقية التي فهمت حقيقة النصوص، وغاصت في ماهية التعابير، بعيداً عن القشور والبدع.
الفلسفة التي كان السابقون يُبحرون في بحارها، من دون خوف من الغرق، أو من الإغراق، حُرمت عن أولادهم وأحفادهم لغايات سياسية واضحة. إنه سعي جلّي لتمكين السلطان ومساعدته، بأي لبوس تنكّر، على أن يسيطر على قوت الشعوب ومصيرها، تحت سطوته، وعلى شعوب أخرى، يسعى إلى تملّكها، إن هو استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أمام الصحراء الفكرية السائدة، والتي تتخللها واحات ضيقة الإمكانات ومحدودة التأثير، والتي سرعان ما تتحوّل إلى سراب مخيب أمام التحدي الأول، تنمو طفيليات متطرفة وإجرامية، بمسميّات مختلفة، محمّلة بالكره والبغض في غالبها، تستند إلى تشويه مقيتٍ، ولكنه فاعل، للنص المقدس، وتعتمد على سياسوية شعبويةٍ، تجد أبعادها في ضعف الخطاب السياسي الواعي وفشله، مسنوداً إلى أنظمةٍ مستبدةٍ متطرفةٍ في سطوتها وانتهاكاتها، ارتضت أن تواجه متطرفين من لدنها، أو من معدنها، أو من تلاوينها، على أن تجادل معارضات سياسية، يمكن لها أن تنازعها الكرسي والمقام، أو أن تنتقص من سلبها الموصوف للشرعية.
دراساتٌ جديةٌ ولامعة كثيرة أشارت إلى الاستراتيجيات الاستعمارية والاستيطانية لهذه المجموعات الإرهابية، وكذلك، تمت الإشارة، مراراً، إلى الحواضن الاجتماعية الطبيعية، أو المصطنعة، والتي وجدت فيها هذه الزمر مرتعاً مجرثماً لتنمو، إلا أن مسؤولية رجال الفكر والتفكير، دينيين كانوا أم علمانيين، غابت بعض الشيء. ويمكن التركيز أكثر على أصحاب "العلم" الديني، ووسائلهم التوصيلية المتمكنة، وأدواتهم الوافرة في إيصال الوعي أو التجهيل، كلٌّ حسب ضميره. قنوات دينية عدّة، وندوات متكررة وفضاءات تعبير عديدة لا تقارن بإمكانات الآخرين ومساحات السماح لهم، غالبها يستعمل في غض الطرف عما يجري، وفي الابتعاد عن تحمّل مسؤولية التوعية والتنبيه.
مطلوبٌ من قادة الفكر الديني التنبّه إلى ما ينتظر المنطقة من مآلاتٍ ظلاميةٍ في ظل القحط الفكري السائد. إن الاعتكاف، أو الاستقالة، الآن، عن لعب دور إنقاذي، أمام مجتمعات عطشة، ومتشربة للخطاب الديني، مهما كان محرّفاً أو سويّاً، إساءة للدين وللإنسان.