الدولة المُلثَّمة
يكاد أن يكون الوجه، ملامحه تحديداً، الجزء الوحيد في الجسد الذي لا نستخدمه. كأنَّه ليس لنا. كأنَّ وظيفته تقديم أوراق اعتمادنا للآخرين. بإمكاننا أن نتحدث، أن نمشي جنباً الى جنب، أن نجلس في مقهى، أو نستقلّ حافلة واحدة، من دون أن نعرف أسماء بعضنا، مهننا، خلفياتنا الاجتماعية. ولكن، يستحيل فعل ذلك من دون وجه. أقصد بوجهٍ محجوب. فسرعان ما تدركنا الريبة ويداخلنا الشك في شخص (رجل خصوصا) محجوب الوجه. فهذا هو هويتنا المتعيّنة في المعاملات (بطاقة الهوية وجواز السفر)، وهو هويتنا المتواضع عليها إنسانياً. لنكون بشراً، وندخل في معاملات مع الآخرين، ينبغي أن نمتلك وجوهاً وملامح. ليس مهمّاً إن كانت أعيننا ضعيفة النظر. ليس مهمّاً إن كنا مصابين بالربو وضيق التنفس. ليس مهمّاً إنْ كنا شرهين في الأكل، أو صائمين. ذلك كله ليس مهمّاً، ما دامت وجوهنا مكشوفة، وملامحنا، التي تميّزنا عن غيرنا، يراها الآخرون، ويحدّدون حيالنا، أحياناً، موقفاً داخلياً انطلاقاً منها. كأن يعجبون بنا، أو يزوَرّون عنا.
أيدينا، أقدامنا، معدنا التي تطحن، أجهزتنا الجنسية التي تصنع الخصب واللذة، كلُّ هذه لنا. لكنَّ وجوهنا ليست لنا. إنَّها للآخرين. عندما نعجب، نحبُّ، نفتن، نتودّد، نحزن، يكون ذلك، غالباً، بفعل الوجه وليس اليد أو الركبة أو الخصر، فهو مدخلنا الى الآخر، وهو شاشة دواخلنا، و"مغرفة" أعماقنا.
لهذه التداعيات سبب. إنها "دولة" داعش المُلثّمة. الدولة المحجوبة الوجه. أو الدولة التي لا وجه لها.
***
كان أبو بكر البغدادي أول شخص في هذه "الدولة"، يكشف النقاب عن وجهه. هذا، طبعاً، إذا كان الرجل الذي رأيناه يعتلي المنبر في زيِّ عمر بن الخطاب، وسَمْته بالمسلسل التلفزيوني "عمر" هو، حقاً، البغدادي. لنعتبر أنه هو، فهذا ليس مهمّاً في مقاربتي فكرة "الدولة" الملثَّمة، التي تخفي وجهها، لفظاعة ارتكاباتها، أو لتوهمها أنّها تستعيد إرثاً "إسلامياً" (المرابطون، ربما) ، المهم هو فكرة "اللثام" والدولة. الخفاء والعلن. الحجب والكشف. فكيف يمكن لـ "دولة" أن تقوم، وتبسط قانونها، وتشرع في أداء وظائفها، بين الناس، بوجهٍ مستورٍ كأنَّه عورة؟
لذلك، كان على "الدولة الإسلامية" أن تقدّم، بعد اسم "الخليفة" (الحركيّ طبعاً)، وجهاً يراه الناس، و"يبايعونه" عليه. تلك خطوة واحدة، من ألف ميل، لبناء "صرح" الدولة الداعشية. فعليها أن تتحوَّل (بمصطلحات المتصوّفة) من الخفاء إلى "التجلي"، من الحجب إلى الكشف. وهذا لم يحدث، ولن يحدث. فليس هناك يقين، عند أحد، بواقعية هذه الدولة وفعليتها، وقدرتها على الاستمرار. ليس هناك "رعايا" حقيقيون لها، إلا لأسباب تكتيكية. كأن يقف الأنباريون معهم في مواجهة المالكي، أو أن يرى فيهم بعض السوريين مُعيناً في مواجهة نظام الأسد، لكنَّ الناس الذين رأوا أفعال هذه "الدولة"، التي لا حدَّ لقدرتها على ارتكاب الجريمة وإشهارها، سيفضّلون، على الأغلب، دولة الاستبداد على دولة البغدادي. لكنَّ الناس تنسى أنَّ نظام الاستبداد هو الذي يخلق هذه الكائنات الفرنكشتاينية، في مختبرات مخابراته وأقبية أجهزته الأمنية الشيطانية، أو يكون سبباً في انبزاغهم، كلعنةٍ، من القهر والجوع والذل الذي يمارسه على شعبه. في الحالتين، ليست هذه الكائنات نبتاً طبيعياً.
***
تتلثَّم دولة "داعش"، لأنها تعرف أنها ليست دولة. ليست، كما يقول أهلنا، "طير عِيشة". لم يخلق هذا الطائر الكريه ليطير، وإن طار، قليلاً، لن يستمر. لذلك، يحرص على تغطية ملامحه، لكي يعود إلى الدولة الأولى التي جاء منها، أو يتغطى أمام دولته، شبه المنهارة (العراق، سورية). يعرف الداعشيون أنهم سيلاحقون على الجرائم التي ارتكبوها. لذلك، يخفون وجوههم.. وعندما تفشل دولتهم وتدولُ، في أقرب الآجال، سيمشون بيننا، أو يجلسون معنا، يأكلون بالأيدي نفسها التي قطعت أعناقاً، جزَّت أطرافاً، جلدت ظهوراً، من دون أن ينكشف أمرهم.
لثام هؤلاء ليس لثام الصحراوي في بيئته السافية.
إنَّه لثام اللصوص والمجرمين وقاطعي الطرق.
وأبداً، أبداً ليس اللثام الذي قصده الشاعر المجهول:
لما حووا إحراز كلَّ فضيلةٍ
غلبَ الحياءُ عليهمُ فتلثَّموا.