الزراعة المستدامة... الحل السحري في سورية
طالما ألف سكان سورية قبل ما يزيد عن سبعين عاماً مشهد أسطح منازلهم مزينة بمختلف أنواع النباتات والخضروات التي كانت تشكّل مصدراً هاماً لقوتهم اليومي، تتغذى بما تجود عليها السماء من الأمطار.
بعد مرور ما يزيد عن ثمانية أعوام على الأزمة الإنسانية السورية، أصبحت العودة لتجارب السابقين ضرورة ملحة لا غنى عنها، للحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الحياة للسوريين الذين أضحوا في غالبيتهم تحت خط الفقر، ولضمان تثبيت ما تبقى من السكان في مناطقهم، والحد من هجرتهم نتيجة الجوع، ولا سيما فئة الشباب التي طالما كانت عامل قوة تمتاز بها هذه المناطق، وتقوم بتصديرها للعالم.
يتوجب على أصحاب الرؤى الاستراتيجية، السير قدماً وبشكل عاجل نحو تشجيع الأنماط الحديثة للتنمية المستدامة، واعتماد خطط زراعية حديثة كزراعات أسطح المنازل والزراعة العمودية على الشرفات، والتي أصبحت ظاهرة اجتماعية تغزو المدن الغربية، يتسابق سكانها في فنون الزراعة للحصول على منتجات عضوية موسمية مجانية، كنوع من وسائل مكافحة التغير المناخي، وإحدى الأدوات التي أوصي بها أثناء فترة الحجر الصحي التي رافقت انتشار فيروس كورونا.
أما في المناطق التي تنتشر فيها المخيمات كشمالي سورية في محافظتي إدلب وحلب، والتي يقطنها ما يزيد عن ثلاثة ملايين إنسان أكثر من نصفهم يتوزعون على مخيمات عشوائية أو شبه منظمة، وفي شمال شرقي سورية الواقعة تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، فينبغي إعداد خطط جديدة لتنسيق الجهود، وتشكيل مجالس استشارية اختصاصية، لتأمين مساحات صغيرة للأسر النازحة وتجهيزها لتكون قابلة للزراعة، إضافة لتأمين مساحات صغيرة لكل عائلة من أجل تربية الحيوانات كالدجاج والأرانب والخراف، للاستفادة من منتجاتها الحيوانية، في ضوء العجز شبه التام لغالبية هؤلاء السكان عن شراء هذه المنتجات.
كومونات لزراعة القمح
مع استمرار الأزمة الإنسانية، وتراجع أسعار صرف الليرة السورية، خصوصا مع اشتداد مفاعيل "قانون قيصر"، إضافة إلى تعدد السلطات المحلية والحكومات وتضارب مصالحها، يصبح البحث عن حلول جماعية على مستوى القرى والبلدات حلاً جيداً تفرضه ضرورات الواقع لاستمرار حياة الناس بأقل أدواتها.
يعتبر الخبز قوتاً أساسياً للسوريين، الذين كانوا يصدرون القمح ويتمتعون بأمن غذائي، ومخزون استراتيجي لسنوات تالية، وفي ضوء الواقع الراهن ينبغي على المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني البدء بالعمل على تأسيس كومونات لزراعة القمح، يقع على عاتقها إعداد مساحات مخصصة لزراعة القمح والإشراف على رعايته وحصاده وتحويله إلى دقيق يحقق الاكتفاء الذاتي للسكان المحليين، يقوم بالعمل فيها سكان من المجتمعات المحلية بشكل تضامني تعاوني.
هذا النوع من المشاريع، سيساهم في إعادة تدوير عجلة الاقتصاد المحلي، وسيحقق الاكتفاء الذاتي النسبي، مع إمكانية تسويق الفائض منه، وسيعزز فرص خلق جو تضامني بين أفراد المجتمع الذي مزقه العنف والصراع المسلح، كما سيزيد من مقاومتهم للأزمة الإنسانية المتصاعدة يوميا والمستمرة لأجل غير مسمى في ضوء الواقع السياسي الحالي.
قد يتساءل أحدهم: ما أهمية هذه المشاريع في بلد مدمر اقتصادياً؟ ليأتي الرد بأن التنمية المستدامة حاجة ملحة للمجتمعات الفقيرة أكثر من الغنية
ولتحقيق أقصى درجات النجاح، تتوجب على هذه الكيانات الاستفادة من تجارب الدول السباقة لهذه المشاريع النوعية، وطلب مشورة المنظمات الدولية والاختصاصيين السوريين والدوليين، والعمل على تأمين بذور القمح ذات المقاومة العالية للظروف المناخية المتقلبة، إضافة إلى تحملها لقلة مياه الري، نتيجة قلة الكهرباء وصعوبة استجرار المياه للسقاية بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها.
تشكّل جملة الحلول السابقة أداة غير مباشرة لمكافحة أزمات البيئة والجوع والصحة التي نعيشها على مستوى العالم، بدءاً من كارثة وباء كورونا وقلة الموارد، وصولاً إلى مكافحة التغيّر المناخي الشغل الشاغل لدول العالم المتقدم، التي أصبحت تبني سياساتها الاستراتيجية على هذا الأساس، وتتغير حكومات وفقاً لمخططاتها المتعلقة بالمناخ.
قد يتساءل أحدهم: ما أهمية هذه المشاريع في بلد مدمر اقتصادياً؟ ليأتي الرد بأن التنمية المستدامة حاجة ملحة للمجتمعات الفقيرة أكثر من الغنية، لأنها تعتمد على تفعيل واستنهاض كل أفراد المجتمع بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم، كما أنها الأقل كلفة مادية، إضافة إلى استمراريتها على المدى الطويل في حال تحولها إلى ثقافة مجتمعية، ووسيلة لمحاربة الأفكار المتطرفة، وأداة لإعادة تفعيل عجلة الاقتصاد المحلي، التي ستبقي الإنسان في دائرة العمل المنتج، التي ستقلل اعتماده على السلة الغذائية التي دأبت المنظمات الإنسانية على توزيعها دون التفكير جديا بحلول مستدامة للنازحين.
إن العمل الاستراتيجي على هذه الحلول كلها، رغم ما تعصف به المنطقة من كوارث، سيعزز ثقة المجتمع الدولي بهذه التجارب المبنية على التكنولوجيا الحديثة، وسيدفعه للاستمرار في تقديم الدعم.
استمرارية هذه المناطق والحفاظ على ما تبقى من سكانها والحد من نزوحهم، مرتبطة بتغيير آليات التفكير التي تحكم عمل المنظمات الإنسانية السورية في المقام الأول، والمجالس المحلية والبلديات ثانياً، والتي تمول غالبها من هذه المنظمات، جميعها أصبحت البديل الواقعي لمؤسسات الدولة التي طالما دأب أبناؤها في النصف الثاني من القرن العشرين على دفع الغالي والرخيص في مشاريعها الفاشلة، لتتحول غالبيتهم في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين إلى نازحين ولاجئين أو أناس يعيشون تحت خط الفقر المدقع.