التنمية الحضرية... الحل المفقود في سورية
أعمل في مدينة صغيرة بشمالي وسط فرنسا يبلغ تعداد سكانها قرابة 46 ألف نسمة، تعتبر من المناطق النائية حسب المفهوم الفرنسي، فالمنطقة الوسطى من فرنسا عبارة عن مناطق ممتدة من المراعي، جل اقتصادها يعتمد على تربية الحيوان والزراعة، لذلك لا تلقى إقبالاً كبيراً.
مركز المدينة عبارة عن شارعين متقاطعين يحتويان على المتاجر التقليدية الفرنسية، إضافة للمتاجر الكبيرة الحديثة الموجودة على أطراف كل مدينة أوروبية.
جنوبي المدينة وعلى طريق يقارب مائة كيلومتر تمتد غابات شاسعة تتم زراعتها والإشراف عليها للحصول على الأخشاب لأغراض الصناعة، أثناء العبور بالسيارة من خلالها وصولا إلى العمل، كثيرا ما أجد جثث الثعالب ملقاة على قارعة الطرق، نتيجة ارتطامها بالسيارات المسرعة، ولوجودها دلالة على غنى هذه الغابات، التي تؤمن مورد رزق لشريحة من المجتمع.
نتيجة المساحات الواسعة في فرنسا، اعتمدت الحكومة منذ عهود طويلة أسلوب التنمية الريفية، الذي يلقى رواجاً كبيراً من السكان الذين يفضلون الهجرة من المدن الكبيرة باتجاه الريف هرباً من التلوث والازدحام.
وكخطة طويلة الأمد لتنمية هذه المنطقة حضرياً، قامت الحكومة منذ عشرات السنوات بتحديد مسارات تنموية، تعتمد على تشجيع المستثمرين لافتتاح صناعات كبيرة، مع تقديم تخفيضات ضريبية كبيرة وتسهيلات أخرى، الأمر الذي حول المنطقة إلى مركز لصناعات تكنولوجية متقدمة كالسيارات والآليات الثقيلة وصولاً إلى صناعات الفضاء والطيران.
وفي محاولة لتنشيط الحياة الاجتماعية للسكان الذين في غالبيتهم من كبار السن، قامت إحدى أشهر مدارس الهندسة العليا في فرنسا بافتتاح أقسام لطلاب السنتين الأولى والثانية، ما جعلها قبلة لقرابة ألف طالب جامعي فرنسي وأجنبي، فكل طالب يحتاج لاستجار غرفة، وكما هي عادة الطلاب يبحثون عن الأسعار الأرخص ويجدونها باستضافة عائلة لهم في بيتهم لقاء أجر شهري، هذه الأموال ساهمت بتنشيط المدينة، إضافة لخلق حالة اجتماعية تخرج الكثير من كبار السن من عزلتهم في المناطق الريفية الفرنسية.
عشرات الدراسات تخرج شهرياً من جهات ومراكز أبحاث سورية ودولية حول شكل حكم سورية المستقبل وأشكال الحكم الإداري المناسبة، جميعها تصب حول ضرورة الحكم اللا مركزي
في المقابل، تنتشر في هذه المنطقة عشرات القصور التاريخية أقدمها يعود لخمسمئة عام خلت، تحولت خلال سنوات إلى مركز جذب سياحي وطني ومن كل أنحاء أوروبا. تبعد المدينة شرقاً قرابة الساعتين عن العاصمة باريس، وترتبط مع كامل المدن الفرنسية بشبكة قطارات سريعة يبلغ متوسط سرعتها 300 كم في الساعة، ما يجعل الحركة منها وإليها في غاية السهولة.
بعد اندلاع الثورة السورية وطرد قوات النظام السوري من شرقي وشمال شرقي سورية في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، سيطرت قوات المعارضة على غالبية هذه المناطق، ثم تحولت لسيطرة تنظيم "داعش"، ثم استقرت تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد).
تعرف هذه المناطق بأنها أغنى مناطق سورية وسلة غذاء السوريين، ففيها أغلب مساحات القمح السوري، كما تشتهر بإنتاج القطن الذي يشكل الأساس لصناعة النسيج، والتي أعطت الشهرة لدمشق وحلب في عالم صناعة النسيج التحويلية، منذ أيام طريق الحرير القديم.
في اتجاه آخر، تشكل المنطقة طريقاً هاما "للترانزيت" من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى العراق والخليج، إلى جانب هذا كله تشكل المنطقة خزان سورية النفطي، إذ تتمركز فيها غالبية حقول النفط.
رغم أن المنطقة أغنى المناطق السورية على الإطلاق، فإن الحكومات السورية المتعاقبة لم تأل جهداً في إفقارها، تعين على رأس مؤسساتها كل من يريد الانتفاع والنهب، إضافة إلى تنصيب مندوبين مقربين من القصر الجمهوري للإشراف على عائدات النفط بشكل مباشر، لتبقى عائداته بيد قلة قليلة من أبناء الأسرة الحاكمة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل حاول النظام السوري، طوال عشرات السنوات، تغييب الهوية الثقافية للمنطقة على اختلاف مشاربها، ومنع الكثيرين منهم من ممارسة أبسط حقوقهم بتكلم لغاتهم الخاصة غير اللغة العربية، والاحتفال بأعيادهم الخاصة.
وبعد سيطرة قوات المعارضة على المنطقة لفترة زمنية قصيرة، لم تتمكن من إدارتها إدارياً والاستفادة من مواردها لتصب في مشروع وطني شامل يحقق أهداف ما خرج من أجله السوريون، ليأتي بعدها تنظيم "داعش" ليستثمر النفط لخدمة أهدافه وتمويل مشروعه الخاص، من خلال بيع النفط الذي يستخرج بطرق بدائية وتسويقه بطرق غير شرعية لدول الجوار وللنظام السوري.
وبعد طرد التنظيم الإرهابي من المنطقة، أحكمت "قسد" وحلفاؤها سيطرتهم على المنطقة، وهدأت وتيرة الحرب اليومية، وتمكنوا من تأسيس مؤسسات مدنية، توفر خدمات بسيطة لأهالي المنطقة.
كما قامت العديد من الدول بالمسارعة في دعم هذه السلطات المحلية، سواء عبر الدعم القادم من حكوماتها بشكل مباشر كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا، أو عن طريق المنظمات الإنسانية الدولية.
إضافة لذلك، أحكمت هذه السلطات سيطرتها على إنتاج النفط، وتقوم حتى اليوم ببيعه لدول الجوار وللنظام السوري بذات الطريقة التي قام تنظيم داعش بها، خدمة لمشروعها السياسي.
حتى اليوم، لم تفلح السلطات المتعاقبة على هذه المناطق، باختلاف الظروف، من وضع خطة حقيقية أو البدء بمسار يحقق خطة تنمية حقيقية يستفيد منها أبناء المنطقة أو السوريون مستقبلاً.
ولم تقم حتى الآن بالتفكير في هذه المسائل ولو نظريا، رغم أنها قد تحمل كثيرا من الحلول للسوريين حاليا ومستقبلا،بل على العكس، بقيت مواردها محط صراع محلي ودولي لخدمة مشاريع سياسية قصيرة الأمد، لا تصب في أي نوع من أنواع التنمية المستدامة أو خدمة مشروع اقتصادي بعيد عن اقتصاد الحرب.
عشرات الدراسات تخرج شهرياً من جهات ومراكز أبحاث سورية ودولية حول شكل حكم سورية المستقبل وأشكال الحكم الإداري المناسبة، جميعها تصب حول ضرورة الحكم اللامركزي، وصولاً إلى تقديم براهين حول أهمية إقامة شكل من أشكال الفيدرالية لضمان استقرارها اجتماعيا مستقبلاً بعد انتهاء الصراع.
يغيب عن أعين جميع المنظرين والمشتغلين في هذا الشأن دور التنمية الحقيقية والمستدامة والتكنولوجيا الحديثة في تقريب السوريين الذين مزقتهم الحرب. على سبيل المثال، إقامة مشروع قطار سريع يربط شمال شرق سورية ببقية المدن السورية، وصولاً إلى جنوبي سورية، كفيل بتقريب السوريين وتسهيل حياتهم الإدارية والاجتماعية.
كما أن إقامة نظام تعليمي متوسط وعال حقيقي يتنشر على كامل المنطقة في بلداتها ومدنها الصغيرة، يضع نصب عينيه تطوير المنطقة، خصوصا في مجال التخصصات التي تعتمد على الزراعة وصناعتي النفط والسياحة، إضافة لتفعيل دور أبنائها في التنمية المحلية وصناعة حاضرهم ومستقبلهم، سيكفل تحقيق قفزات نوعية إلى مستقبل السوريين جميعاً.
المنطقة من أغنى مناطق سورية سياحياً وطبيعياً وآثاراً، وهذا ما يغيب عن غالبيتنا، فهي تقع في منطقة ما بين النهرين، التي انطلقت منها قبل آلاف السنين حضارات أنارت البشرية جمعاء، والتي لا يغيب ذكرها في أي كتاب مدرسي حول العالم، وآثارها حاضرة في كل متاحف العالم.
تنميتها بشكل علمي ومدروس مستقبلاً، سيكفل تحقيق تقارب كبير واجتماعي كبير، يكفل تحطيم جميع الحواجز التي خلفها الصراع في نفوس الناس، وسيحقق تآلفاً اجتماعيا ناجحاً بعد عقود من محاولات تغييب الهويات الثقافية فيها، وكل محاولات سلخها عن بقية أجزاء سورية، ستؤخر من الاستقلال الاقتصادي للدولة كلها، وتبقيها رهينة المساعدات الدولية لعقود قادمة.
حلول التنمية المستدامة المدروسة، المخطط لها بشكل علمي، كفيلة بتحقيق حلول اقتصادية واجتماعية سحرية. كل ذلك يمكن أن يتم في حال توافرت الإرادات الحقيقية التي تعتمد على خطة بناء منظمة وطويلة الأمد، نابعة من معرفة الواقع والموارد الطبيعية والثقافية ودورها في التنمية المحلية والاستقرار الاجتماعي، إضافة إلى معرفتها الدقيقة بتجارب التنمية الدولية، والتي تخطط لبناء مجتمع جديد يضمن تحقيق الرفاه لكل فرد من أبنائه، ينقل أبناءه من حياة الحرب إلى حياة الإنتاج والاستقرار.