السقا لم يمت
من أصعب الكوارث والمآسي التي عاصرتها مع أسرتي خلال أيام العدوان على قطاع غزة، مشكلة انقطاع المياه. تذكرت أمي، رحمها الله، وأنا أمر بهذه المحنة، حيث كانت تردد دائماً: قضاء أخف من قضاء. وبالفعل، هذا ما حدث معي، فقد اعتدنا على انقطاع الكهرباء المستمر في غزة، والذي تفاقم بعد تدمير الأنفاق التي كانت تسمى شريان الحياة، حيث تمتد بين الحدود المصرية والفلسطينية، ويتم منها تهريب ما تحتاجه غزة من مستلزمات، وخصوصاً الوقود الذي يستخدم في تشغيل المولدات الكهربائية بديلا عن الكهرباء. ولكن، ومع تدمير الأنفاق بعد إزاحة الرئيس المصري، محمد مرسي، عن الحكم، وكأوّل خطوة إجرائية ضد غزة المنكوبة، بدأت أزمة الوقود تتفاقم، ولم تقو المولدات الكهربية الصغيرة على العمل وضخ المياه إلى الأدوار العليا من البنايات، بسبب عدم وجود الكهرباء، ولم يكن هناك وقود لتشغيلها، وهكذا بدأ المواطنون يشكون من شح المياه في بيوتهم، ولسان حالهم يقول: قطع الكهرباء ولا قطع الماء.
ومع العدوان، عمدت إسرائيل إلى تفجير آبار المياه، وضرب محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، ما أدى إلى توقف ضخ المياه إلى البيوت، وأصبح الحل الوحيد أمام السكان الذين يبحثون عن الحياة، في وسط جحيم الموت، (العبارة اقتبستها من خطاب خالد مشعل)، شراء المياه من شاحنة بيع المياه العذبة، وقد أصبح السكان يطلقون على بائع المياه الذي يقود الشاحنة بصهريجها الضخم اسم "السقا"، كما في الحارات الشعبية القديمة، ولكنه حالياً بنسخة معدلة، هي صهريجه الضخم المملوء بالمياه العذبة التي تقوم بتحليتها شركات متخصصة، وتبيعها للمواطنين. وأفادت دراسات، أجريت على محطات التحلية وسيارات نقل المياه وخزانات توزيع المياه في المحلات التجارية وخزانات المياه في المنازل، بأن 20 % من محطات التحلية ملوثة تلوث ميكروبيولوجي، ونسبة التلوث في سيارات نقل المياه حوالي 35 %، ووجد أن حوالي 74% من العينات من خزانات توزيع المياه ملوثة ميكروبيولوجياً، لكنها تعتبر الحل الوحيد أمام أهالي غزة الذين أصبحوا حائرين بين الهرب من الموت والبحث عن الماء سر الحياة.
استطاعت إسرائيل أن تلعب لعبتها جيداً في أثناء أيام العدوان، ففي وقت كان يجب على المواطنين الاختباء من القصف المستمر، براً وجواً وبحراً، فقد خرجوا من بيوتهم يحملون الأواني بحثا عن الماء، وتحركت الشاحنات، واعتلى السكان أسطح بناياتهم، على الرغم من أن الطائرات استهدفت، في غير مكان، أشخاصا كانوا يعتلون أسطح بيوتهم، مثل امرأة كانت تنشر غسيلها، فيما يلهو أطفالها بجوارها، وهكذا، خاطر المواطن المنكوب بنفسه، وتعرض لضغط نفسي رهيب، في سبيل نقطة الماء.
أرادت إسرائيل أن تجعل المواطن الغزي ينقم على المقاومة الفلسطينية التي أوصلته إلى هذا الوضع، وتتناسى إسرائيل الاتفاقات التي وقعتها بشأن المياه، وإن المعيار العالمي للمياه يعطي الفرد الواحد 150 لتراً من الماء يومياً، لكن حصة الفرد الواحد في غزة لا تتجاوز 40 لتراً في اليوم الواحد في مقابل ما يستخدمه الصهيوني الذي يصل إلى 350 لتراً في اليوم، أما المغتصبون المنتشرون في المستعمرات الصهيونية، فيستهلك الواحد منهم 450 لتراً.
أمام البناية التي أقطنها، مدَّ "السقا" خرطوماً طويلاً، حتى وصل إلى سطح البناية، ووضعه ابني داخل خزان المياه الفارغ. وبعد دقائق قليلة، جاء ابني يحمل لي البشرى بأن الخزان امتلأ تماما بالمياه، لكن الصدمة التي كانت تنتظرنا هي عدم نزول قطرة ماء واحدة من الصنبور في شقتي.
صعدت الدرج سريعاً، لأكتشف أن ابني وضع خرطوم التعبئة في خزان مياه الجيران في الطابق السفلي والذين هجروا البيت، وبسرعة، طلبت منه أن يصعد سلماً صغيراً، حتى وصل إلى الخزان الخاص بشقتنا، وأزاح غطاءه، فيما كنت أقوم، أنا وباقي أولادي، بتفريغ خزان الجيران بدلو صغير، وحمل هذا الدلو بالتناوب، وإفراغه داخل الخزان الخاص بنا.