السياسة الخارجية الأردنية ومعضلة "الخيار الثالث"
لا يُخفي سياسيون أردنيون شعوراً بالعزلة والقلق الشديد إزاء التسارع الملحوظ في توقيع الاتفاقيات بين دول عربية وإسرائيل، بإشراف أميركي ورعاية مباشرة. لن يقف الأمر عند حدود الإمارات والبحرين، فالتأكيدات الأميركية والمؤشرات الواضحة تدلّ على أنّ دولاً عربية أخرى على الطريق قريباً.
في جلسات العصف الفكري والنقاش المعمّق، في عمّان، لما يحدث، تصعد قراءة فحواها أنّه لا ينفصل عن سياق تطور الأحداث، منذ عقدين، فالعالم العربي الذي نعرفه انهار تماماً، ولم تعد الدول العربية المحورية هي من يقرّر مستقبل المنطقة، إذ صعدت القوى الإقليمية، كإيران وتركيا، لملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، فيما أصبحت دول الخليج العربي تبحث عن مصالحها، في إعادة تعريف هذه المصالح ومصادر التهديد، وحتى في تستلّم زمام المبادرة في الملفات العربية الساخنة.
في هذا المنعطف الاستراتيجي التي تدفع ثمنه القضية الفلسطينية بدرجة رئيسية، تجد عمان نفسها أمام خيارين: الأول، المهادنة والصمت، وربما اللحاق بالركب، والانخراط بقدر ما في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكّل، كما فعلت مصر، وتجنّب مزيد من الأزمات والتوتر في العلاقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، خصوصاً مع صهره الذي يمسك بملف هذه الاتفاقيات، جاريد كوشنر، وعدم الدخول في أزمة مع الدول العربية التي مثّلت خلال العقدين الأخيرين حليفاً استراتيجياً للأردن. الثاني، الإمساك بالموقف العربي المعروف، ومبادرة السلام، وهو الخيار الذي يحظى بتأييد شعبي كبير. ذلك يعني أيضاً الاصطفاف مع السلطة الفلسطينية، ولكن من دون وجود رؤية أو خطة عمل لمواجهة هذه التحوّلات، ما يعني الدخول في مرحلة أكثر خطورة من العزلة الإقليمية، وأكثر من ذلك تهديد مصالح الأردن الاقتصادية والسياسية، في حال انعكاس ذلك على العمالة الأردنية في الخليج، في ظل ظروفٍ اقتصاديةٍ داخليةٍ صعبة للغاية، تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في البطالة وأزمة مالية متراكمة.
من يتمعن بيان وزير الخارجية الأردني تعليقاً على اتفاق البحرين و"إسرائيل"، يلحظ بوضوح شديد حجم التعقيد والمأزق في الموقف الأردني
يعمل "مطبخ القرار" في عمّان على سنّ "خيار ثالث"، يقوم على ردم الفجوة المتنامية بين الموقف الاستراتيجي الأردني من القضية الفلسطينية، التي يعتبرها مسألة أمن وطني أردني، ومرتبطة بصميم المعادلة الداخلية والاستقرار السياسي، والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية مع الأميركيين والحلفاء العرب. ولكن لا يخفي مسؤولون أنّ هذا الخيار (الثالث) ليس سهلاً، ويحتاج حسابات معقدة ودقيقة، والسير على حبل مشدود.
من يقرأ بتمعّن بيان وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، تعليقاً على اتفاق البحرين و"إسرائيل"، ويفكّكه، يلحظ بوضوح شديد حجم التعقيد والمأزق في الموقف الأردني، فهو يردّ بصورة ضمنية على ادّعاءات كوشنير بإقامة تحالف استراتيجي إسرائيلي - عربي، لمواجهة الدول المحيطة (إيران علناً، تركيا ضمناً)، ويؤكّد ثوابت الموقف الأردني بالحل السلمي المستند إلى "إقامة دولة فلسطينية"، ويتجنّب انتقاد الاتفاقيات، ويحاول الوقوف مع السلطة الفلسطينية في هذا المنعرج الخطير في تاريخ القضية.
قد يكون المخرج الوحيد لتخفيف الضغوط على عمّان، والوصول إلى نقطة توازن، انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية الأميركية
المعضلة أنّ الفجوة تكبر كثيراً بين هذه "العقيدة الاستراتيجية" والتحولات الدولية والإقليمية، وقد يكون المخرج الوحيد لتخفيف الضغوط على عمّان، والوصول إلى نقطة توازن يتمثّل بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية، بأمل أن تتغير هذه الإدارة لمصلحة إدارة جديدة أكثر تفهماً للوضع الفلسطيني. ولكن ماذا لو جاءت الرياح بعد شهرين بما لا تشتهي السفن، ونجح الرئيس ترامب في البقاء في البيت الأبيض؟ هذا السيناريو هو الأسوأ على الإطلاق، فإذا كان بالإمكان مقاومة الضغوط الأميركية والصمود والتحلّي بالصبر خلال فترة قصيرة، فإنّ أربعة أعوام أخرى ستكون بمثابة "كابوس"، وكأنك تقف واضعاً قدميك بين حافتين تتسعان، فمصالحك الوطنية ومعادلتك الداخلية في كفّة، والتحالفات الخارجية الإقليمية والدولية الحيوية في كفّة أخرى.
لم يعد غريباً أن تسمع في عمّان دعواتٍ غير مسبوقة، حتى من رافضي الصفقة، إلى الانتقال إلى مربع "الحقوق" بدلاً من "الدولة"، في محاولة لتغيير قواعد اللعبة مع "إسرائيل"
أمّا الحقيقة التي لم يعد في الوسع تجاهلها أو التحايل عليها، فتتمثل في أنّ التسوية السلمية، بصيغتها المعروفة، انتهت عملياً، لم يعد يتحدّث عنها إلا الأردنيون والفلسطينيون، فيما الحلم بإقامة الدولة ضمن صفقة القرن والتطبيع الإقليمي بات بعيد المنال. ولم يعد غريباً أن تسمع في عمّان دعواتٍ غير مسبوقة، حتى من رافضي الصفقة، إلى الانتقال إلى مربع "الحقوق" بدلاً من "الدولة"، في محاولة لتغيير قواعد اللعبة مع "إسرائيل"، وتهديدها بالأزمات الداخلية، وهي لعبة أكثر تعقيداً من قصة الدولة نفسها. وتبدو المفارقة أنّ رئيس الوزراء الأردني، عمر الرزاز، قد ألمح إلى هذه المقاربة، في مقابلة إعلامية، فقد واجه انتقاداتٍ داخلية كبيرة، اضطر بعدها إلى إعادة توضيح موقفه، حتى من أوساط رسمية وشبه رسمية، ما يعني أنّ هذا الطرح لم يستدرج ضمن الخيارات أو السيناريوهات والأوراق الأردنية، بل لا يزال على صعيد بعض النخب.
الخيار الثالث تكتيكي ومؤقت، للتعامل مع هذه اللحظة، لكن استراتيجياً من الضروري إعادة تعريف المصالح الوطنية الأردنية في ضوء التحولات، والتفاهم بشأن الدور الأردني وإدارة الخسائر، ما دام من الصعب أن نتحدّث عن أرباح أو حتى الحفاظ على "رأس المال".