الانتخابات النيابية في الأردن... خطوة إلى الأمام أم إلى الخلف؟
مثّلت الانتخابات النيابية أخيراً في الأردن الامتحان الكبير الأول لمسار التحديث السياسي، الذي بُدِئ به قبل أعوام قليلة، وكان الجميع يترقّب ما ستنتهي إليه الانتخابات، إما تصديقاً ونموذجاً للتطور السياسي المتدرّج، الذي صمّمته خطة التحديث السياسي (وما انبثق عنها من تعديلات دستورية وقوانين انتخاب وأحزاب جديدة)، أو بوصفها تكراراً لتجارب سابقة في محاولات الإصلاح السياسي لم تكتمل.
في وقت سارع سياسيون إلى نعي التجربة الحزبية مبكّراً بعد الانتخابات، فور بروز النتائج، وتكشّف حصول المعارضة (حزب جبهة العمل الإسلامي) على 31 مقعداً (تمثل أقلّية من أصل 138 مقعداً في مجلس النواب)، بخاصّة أنّهم حصدوا ما يقترب من نصف مليون صوت لناخبي الدائرة الوطنية، فيما منيت الأحزاب السياسية الأخرى (بخاصة التي حظيت بدعم أو رعاية من المؤسّسات الرسمية) بتراجع بصورة ملحوظة على صعيد القائمة الوطنية.
في الطرف الآخر، نظر فريق من الإصلاحيين إلى النتائج بوصفها تأكيداً لجدّية الدولة، ولمصداقية المضي في تعزيز التجربة الحزبية الجديدة وإعطاء مصداقية للانتخابات ولإرادة التغيير نحو حكومات حزبية برلمانية، ضمن إطار زمني (لا يتجاوز عشرة أعوام).
لا تزال هنالك حالة من الشكّ تهيمن على نقاشات النُخَب السياسية حول ما يمكن أن تؤول إليه التجربة الحزبية الجديدة
لا تزال هنالك حالة من الشكّ تهيمن على نقاشات النُخَب السياسية بشأن ما يمكن أن تؤول إليه التجربة الحزبية الجديدة. في ضوء تلك النتائج، هل سيكون هنالك تراجع أم مضي إلى الأمام؟ وهي حالة مرتبطة بشكوك أعمق، أثيرت من المحافظين سابقاً في مدى أهلية أو توافق البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية الأردنية، وربّما الواقع الجيوسياسي مع تجربة ديمقراطية وحزبية تداولية على السلطة... بعيداً عن الأحكام المسبقة والانطباعية، سعى كتاب صدر حديثاً بعنوان "الانتقال الديمقراطي في الأردن: تجربة الأحزاب السياسية والانتخابات النيابية 2024" (ألّفه كاتب هذه السطور مع الباحث الشاب غير المقيم في معهد السياسة والمجتمع، محمد أمين عسّاف، ومجموعة من الباحثين الميدانيين، وأشهر أخيراً بالتعاون بين معهد السياسة والمجتمع وصندوق الملك عبد الله للتنمية) إلى بناء مقاربة علمية منهجية في دراسة سلوك الأحزاب الأردنية خلال الانتخابات النيابية وما قبلها، منذ صوّبت الأحزاب أوضاعها وفقاً لقانون الأحزاب الجديد (وكان المعهد قد أصدر كتاباً سابقاً في حالة الأحزاب السياسية عشية تصويب الأوضاع بعنوان "على أعتاب التحوّل").
درس الكتاب التجربة الحزبية من ضمن إطار نظري لتجارب الانتقال الديمقراطي ونظرياته على مستوى العالم، سواء ما تعلّق بشروط ومتطلّبات التحوّل الديمقراطي (باستعراض نظريات التحديث والانتقال والبنائية في التحول الديمقراطي)، وتطوّر الأحزاب السياسية في الديمقراطيات العالمية، وتأثير العوامل المختلفة، من ضمنها دور قوانين الانتخاب (الهندسة الانتخابية)، لمحاولة استكشاف فيما إذا كان الأردن يقترب من أحد هذه النماذج أو يتشابه معها. دُرِس سلوك الأحزاب السياسية في الانتخابات من خلال جملة من المؤشّرات الرئيسية؛ تأطير الهوية السياسية للأحزاب السياسية وعلاقتها بالقاعدة الاجتماعية؛ الحوكمة الداخلية؛ الأجنحة الشبابية والنسوية والخطاب الإعلامي؛ البرامج الانتخابية والحملات الانتخابية واختيار المرشّحين. ثمّ جاء الفصل الأخير للدراسة لمناقشة مستقبل التحديث السياسي في الأردن في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية.
يمكن القول إنّ تجربة الأحزاب السياسية لا تزال في بداية التحوّل في الأردن، فعلى الرغم من قِدم التجربة الحزبية (تعود إلى بدايات الإمارة، حزب الشعب في عشرينيات القرن العشرين) إلاّ أن التقاطعات في التجربة الحزبية (ومرحلة الحظر الطويل منذ 1958-1992)، بالإضافة إلى هامشية دور الأحزاب في العملية السياسية، وثنائية الدولة - الإخوان المسلمين، التي هيمنت في اللعبة السياسية الداخلية، منذ عودة الحياة النيابية في 1989... جميع تلك العوامل سبّبت ضعفَ التجربة الحزبية وعجزها، وهشاشةً في البنية السياسية والفكرية لأغلب الأحزاب الموجودة، وهو أمر لم يكن بالإمكان تجاوزه خلال عامَين، بعد تصدير مُخرجات التحديث السياسي وتشريعها، ولم يكن بإمكان أيّ حزب سياسي أن يقوم بعملية بناء كوادره وقدراته وجسوره مع قاعدته الاجتماعية في هذه المدّة القصيرة.
ظهرت الفجوات في التجربة الحزبية الجديدة بوضوح في معالم الدراسة، على صعيد بناء الهُويَّات الحزبية وعلاقتها بالقاعدة الاجتماعية، مقارنةً بالأحزاب العريقة في العالم، التي تأسّست من رحم قاعدة اجتماعية، وعكست مصالحها السياسية والاقتصادية وهُويَّتها الاجتماعية، بينما في الحالة الأردنية ما زالت الهُويَّة الحزبية ضائعةً خارج حسابات القواعد والمصالح التي تمثّل الديناميكية الرئيسية لنجاح التجربة. وهكذا، تظهر ضمن عملية البناء الحزبي مشكلاتٌ في عمليات استقطاب النساء والشباب والخطاب الإعلامي، بالرغم من زيادة نسبة الشباب والنساء وتطوّر الخطاب الإعلامي مقارنةً بالتجربة الحزبية في مرحلة ما قبل التحديث السياسي. بالرغم من ذلك، أظهرت الدراسة مؤشّرات مهمّة على إمكانية نجاح التجربة الحزبية في حال أخذت مساراتٍ جدّية وتطورّت عملية التحديث، منها أن هنالك تقارباً كبيراً في هُويَّة أغلب الأحزاب على أكثر من صعيد مرتبط بجدلية العلاقة بين الدولة والدين، أو على صعيد السياسات الاقتصادية؛ دور الدولة في الاقتصاد. فمن الواضح أنه لا توجد فروق كبيرة بين الأحزاب السياسية من مختلف الألوان والأطياف بشأن تعريف علاقة الدولة بالدين. في العموم، يرى أغلبها أنّ الدين عامل مهم في المجال الاجتماعي والثقافي وفي حماية الأخلاق والأسرة، وهو أمر لا يختلف فيه حزب وطني يقع في يمين الخريطة (يمين الوسط) مثل "الميثاق"، عن حزب آخر يقع في يسار الوسط، عن الحزب الوطني الإسلامي (يمين الوسط)، عن جبهة العمل الإسلامي التي تشكّل المعارضة الرئيسية في البلاد، التي تجاوزت الشعارات التقليدية (الإسلام هو الحلّ)، وقفزت بالخطاب الفكري والسياسي نحو الاهتمامات السياسية والاقتصادية والعملية، فمصطلح "الإسلام السياسي"، لم يعد قائماً بالمعنى الأيديولوجي التقليدي (بالمفاهيم الكلاسيكية للدولة الإسلامية)، بل لا يكاد يختلف خطاب الجبهة عن الأحزاب الأخرى القريبة من الدولة على هذا الصعيد.
على صعيد السياسات الاقتصادية ودور الدولة في الاقتصاد، والمفاضلة بين السياسات الليبرالية والاجتماعية للدولة، من الواضح أنّ تفضيلات أغلب الأحزاب، بما فيها جبهة العمل الإسلامي، وحزب إرادة، وغيرها، تميل نحو الليبرالية الاجتماعية، أي القطاع الخاص واقتصاد السوق الاجتماعي معاً، ففي رؤية جبهة العمل الإسلامي الاقتصادية المفصّلة هنالك اقتراب كبير من أطروحات اليسارية الاجتماعية، كما هي حال الديمقراطي الاجتماعي، وبدرجة كبيرة حزب إرادة والعديد من الأحزاب السياسية، وربّما يعود هذا التموضع الهُويَّاتي في المجال الاقتصادي لموقف الشارع المتشكّك بسياسات صندوق النقد الدولي، ولرغبة شريحة اجتماعية واسعة بسياسات اقتصادية أكثر حمائية للمجتمع والطبقات الفقيرة والمتوسّطة.
ضمن هذه الاعتبارات، من الواضح أنّ هنالك تقارباً كبيراً في هُويَّة الأحزاب السياسية، وربّما هذا يدفع قرّاء ومُحلّلين إلى التساؤل عن سبب فوز "الإخوان" بهذا القدر الكبير من القواعد، وفشل الأحزاب السياسية الأخرى في تحقيق نتائجَ متوقّعة، بخاصّة تلك التي كان يعوّل عليها أن تكون قد كوّنت قاعدة اجتماعية واسعة.
لم يعد مصطلح "الإسلام السياسي" قائماً بالمعنى الأيديولوجي التقليدي لدى جبهة العمل الإسلامي
يجيب الكتاب عن ذلك بتأطير خمس ديناميكيات رئيسية. أولاها تتمثّل بالحرب على غزّة وشعبية حركة حماس التي جناها الإخوان المسلمون. وثانيها الجانب الهوياتي بشقّيه؛ الديني (الإخوان معروفون أكثر من غيرهم شعبياً بالخطاب الديني)، والمجتمعي (فالأردنيون من أصول فلسطينية صوّتوا غالباً للإخوان على صعيد القائمة الوطنية). ثالثها المعلمون، إذ قدّم الإسلاميون عدداً من قيادات المعلّمين ضمن قائمتهم، ممّا أدى إلى تصويت عدد كبير من المعلمين لهم. الديناميكية الرابعة هي الصوت العقابي، فالأحزاب الأخرى، التي قدّمت نفسها أنّها تمثّل الدولة والحكومة، وقعت في فخ أن شعبية الحكومات في الحضيض وأنّ هنالك استياءً شعبياً من أغلب الحكومات، فلماذا يصوّتون للواقع الحالي المرفوض؟! أمّا الديناميكية الأخيرة فهي خبرة الإخوان وجبهتهم التنظيمية والإدارية والانتخابية، التي ظهرت بجلاء في حملاتهم الانتخابية وقائمة المرشّحين والإدارة الفعّالة للانتخابات. ويمكن أن نضيف إلى الكتاب ديناميكيةً أخرى مهمّة تتمثّل في المحسوبية والشللية وسوء التخطيط والفشل في المأسسة والتبعية التي وقعت فيها أحزاب عديدة كانت تتأمّل الحصول على مقاعد كبيرة ومنافسة الإسلاميين.
ماذا عن المستقبل، كيف نقرأه في ثنايا الكتاب؟ ... يتحدّث الكتاب عن عدة سيناريوهات مستقبلية، لكنّ ذلك مرتبط بأكثر من عامل، منها الإرادة السياسية ومدى التصميم على المضي في مشروع التحديث، وعدم التراجع أمام الدعوات المتزايدة من المتشكّكين بالتجربة، وقدرة الإسلاميين بوصفهم اللاعب السياسي المعارض الأكبر على تقديم سلوك عقلاني معتدل، والظروف الخارجية المؤثّرة في دولة مثل الأردن في إقليم مضطرب.
أمّا عن الدفع الذاتي من قبل الأحزاب السياسية، وفقاً للكتاب، فهنالك شرط مهمّ مرتبط بالاستقلالية والمأسسة والهُويَّة الحزبية، وببناء القاعدة الاجتماعية التي تمثّل جميعاً روافعَ أيّ عمل حزبي ناجح.