ما يحول دون توسّع انتشار كتابة السِيَر الذاتية والحياتية الخاصّة بسينمائيين عربٍ هو نفسه ما يحول دون إنتاج أفلامٍ وسِيَر حياتية لشخصيات عربيّة عامة، إنْ يكن النصّ المنوي إنتاجه مكتوباً خارج "المنزل العائلي". فالكتابة الذاتية محاصرة برقابة (ذاتية غالباً، لكنّها متأثّرة بالرقابة العامة، المنبثقة من سلوك وتربية يوميين) متأتية من ثقافة تربوية "تُفضِّل" عدم ذكر الحميميّ علناً. وإنتاج أعمالٍ تروي فصولاً من سِيَر حياتية يحتاج إلى "موافقة عائلية"، وإلاّ يبقى العمل (فكرة أو نصّاَ أوليّاً أو مشروعاً مكتوباً بالكامل) مجرّد سراب. ممنوع الخروج على العائلة هذا غير شاملٍ بالتأكيد.
لكن الخارج على "العائلة" نادر للغاية في المكتبة السينمائية، ومنعدم كلّياً في الإنتاجين السينمائي والتلفزيوني. الأمثلة، المصرية تحديداً وبعض السورية واللبنانية، دليلٌ. بهتان الأعمال منبثقٌ من التزامٍ صارمٍ بـ"الرواية الرسمية". يتوتّر أحمد زكي، في لقاء صحافي إعلامي لبناني عشية إطلاق "أيام السادات" (2001) لمحمد خان، إزاء تساؤل نقديّ عن مصدر/ مصادر الكتابة السينمائية، ومدى تحرّر الكتابة السينمائية من كلّ رقابة عائلية وغير عائلية، فيؤكّد أنّ ذلك مرتكز على كتبٍ لأنور وجيهان السادات. الحيلة السينمائية لخان أداة إبداعية لتمرير بعض السينمائيّ في فيلمٍ يروي فصولاً من سيرة ثاني رئيسٍ لمصر بعد "ثورة 25 يونيو" (1952). وزكي نفسه، بما يمتلكه من براعة أدائية، متمكّن من جعل الشخصية سينمائية إلى حدّ كبيرٍ، رغم التزام مسارها المطلوب إظهاره على الشاشة. هذا حاصلٌ معه أيضاً في فيلمي "ناصر 56" (1996) لمحمد فاضل و"حليم" (2006) لشريف عرفة، والمسلسل التلفزيوني "الأيام" (1979) ليحيى العلمي. التوثيق العلميّ سببٌ آخر لغياب الإنتاج المتعلّق بالسِيَر، الخارج على الرواية الرسمية لصالح الفنّ. المكتبة السينمائية العربية فاقدة لهذا النوع العلمي من العمل.
السِيَر الموجودة مرتبطة بمدى مهنيّة كاتبها، ورغبته في اعتماد أكبر قدرٍ من مصداقية المعلومة والتحليل. الفنّ يأتي لاحقاً على التوثيق، الذي (التوثيق) يُفترض به ألا يسيطر على عملٍ فني، فللفن حريته المطلقة في مقاربة الوقائع والحقائق، بينما الوثائقيّ (سينما أو سلسلة تلفزيونية) تلتزم تلك الحقائق لتبيان معالم وتفاصيل وحكايات غير واضحة أو مخفيّة، أو لقولِ تلك الحقائق أو لنقْل سجاليّ للشخصية وعالمها ومساراتها. السينمائيّ الوثائقيّ العربيّ يُنقِّب عمّا يريد إنجازه. يبحث عن كلّ ما يرتبط بموضوعه. يغوص في الخفايا للحصول على وقائع ومعطيات وحقائق. يذهب إلى الأرشيف والذاكرة. يسأل ويلتقي أناساً يعرفون. نتاج هذا عمل يخرج من صرامة العلم إلى رحاب الفنّ. المأزق الوحيد الذي يواجهه، يكمن في تحريف حقائق وتفاصيل مُؤكّدة. أما كيفية مقاربتها الجمالية السينمائية، والهدف من تلك المقاربة، فحكرٌ على السينمائيّ الوثائقيّ العربيّ، المستعدّ لنقاشٍ نقدي سوي. الميزانية عائقٌ أيضاً. الشخصيات التاريخية محتاجة إلى ميزانيات، وإنْ يُمكن التحايل على مسائل بصرية كثيرة في زمن التقنيات الأحدث والأهمّ. الشخصيات المعاصرة والحديثة تتطلّب جهداً لن يبقى أسير الإنتاج.
هذه مسائل فنية أساسية. التشابه الشكليّ ضروريٌ أم لا؟ النبرة والحركة والنظرة؟ لكنْ، أيُمكن معرفة سلوك المتنبيّ في يومياته مثلاً؟ نبرته وصوته وحركة وجهه وعينيه وجسده؟ هذا غير مجدٍ وغير مهمّ، لكنّ هذا يتطلّب جهداً أدائياً أكبر، لإيجاد مساحة مشتركة بين الواقعيّ، غير المعروف إلاّ عبر كتابات وأقوالٍ متداولة لن تكون كاملة في هذا المجال، والتمثيلي المفتوح على ابتكارات جمّة. فهل ينفع التماهي، إلى حدّ كبيرٍ، بشخصية جمال عبد الناصر مثلا، أم أنّ الأهمّ يكمن في كيفية الأداء التمثيلي، الذي يحتاج، ولو قليلاً، إلى تشابهٍ ما؟
أداءات متناقضة الشخصيات العامة في لبنان كثيرة، لكن النتاجين السينمائيّ والتلفزيونيّ عنها نادران. يوسف فخري أقدر الممثلين على مقاربة شكلية لجبران خليل جبران، وعلى بلوغ حدّ كبيرٍ من ذات الأديب وسلوكه (حلقة تلفزيونية). المغنية كارول سماحة غير موفّقة أبداً في تأدية صباح في "الشحرورة" (2011) لأحمد شفيق. رفيق علي أحمد تائهٌ بين نجوميته التلفزيونية والمسرحية، وشخصية سقراط الموغلة في أعماق الحياة والفكر والالتباسات والتحدّيات، في "آخر أيام سقراط" (1998) لمروان الرحباني، رغم أنّها "مسرحية غنائية" غير معنيّة كثيرة بتأريخ ماضٍ واستعادة أفكاره في زمن الارتباك اللبناني. "شربل" (2009) لنبيل ليون غير معنيّ إطلاقاً بالسينما والتمثيل والفنّ، لانهماكه الوحيد بسرد حكاية قدّيس من لبنان، بناءً على المتداول الرسمي عنه. السوري بسام كوسا بارعٌ في تأدية أدوارٍ سينمائية وتلفزيونية كثيرة. في "تراب الغرباء" (1997) لسمير ذكرى، يعكس شيئاً كثيراً من شخصية عبد الرحمن الكواكبي وعالمه وزمنه وأفكاره، رغم أنّ الفيلم غير سينمائيّ. مواطنه فراس إبراهيم أسوأ مُقدِّم لشخصية فؤاد الأطرش في "أسمهان" (2008) لشوقي الماجري الذي تُشوِّه سلاف فواخرجي فيه شخصية أسمهان، تمثيلاً وحضوراً ونطقاً على الأقلّ.
إبراهيم نفسه يُمعن تشويهاً في محمود درويش، لسذاجة أداء وبهتان كتابة وسطحيتها والمغالاة في تقديسها (حسن م. يوسف) وتصنّع معرفة وادّعاء فهمٍ ووعي فنيِّين؛ ومعه تستكمل فواخرجي تشويهها التمثيلي لشخصية ريتا، "المُقيمة" بين خيالٍ وحلم وواقع ملتبس ("في حضرة الغياب"، 2011، نجدة أنزور). مأزقٌ إضافي: هناك شخصيات حقيقية في يوميات العيش العربيّ، مُثيرة لفعلٍ دراميّ سينمائيّ أو تلفزيوني، لكنّها غير معروفة بشكلٍ عام، كالحاصل في الغرب.
عربياً، يستحيل الاهتمام بها، فالسينما والتلفزيون أعجز عن تحقيق عملٍ متحرّر من كلّ رقابة قامعة، يتناول سيرةَ شخصيّةٍ معروفة؛ فهل سيخوض تجربة البحث عن شخصيات عادية، لها في سلوكها وعيشها وتأمّلاتها، ما يستدعي الارتكاز الفني عليها لعملٍ أو أكثر؟ ظهور شخصية ممرّضة، في "آخر فالنتاين لي في بيروت" (2012) للّبناني سليم الترك، في علاقة غير شرعية أثناء ممارستها مهنة التمريض، يُثير غضب "نقابة الممرضين والممرضات في لبنان"، التي تتقدّم بشكوى قضائية أمنية لمنع الفيلم، بحجّة "تناول صورة الممرضة بشكلٍ مُسيء"، وهذا غير صحيح، فالممرضة في الفيلم لن تكون في موقع "تمثيل" الممرضات في لبنان، وسلوكها السينمائيّ واقعيّ للغاية، يرتبط بحالات لا بالجميع، كأي عامل في أي مهنة.
إنْ يتعرّض فيلمٌ لمنعٍ بسبب سلوك ممرضة واحدة، فما هو مصير فيلمٍ يتناول شخصية رجل دين، وبعض رجال الدين يُسيئون إلى أنفسهم وطوائفهم وأديانهم بتصرّفات غير مقبولة، أخلاقياً وإنسانياً على الأقلّ؟ هذا يحصل أيضاً مع محامٍ أو قاضٍ أو صيدلاني أو إعلاميّ أو سياسيّ أو رجل أعمال أو مصرفيّ، خصوصاً أنّ لبنان يُعاني اليوم تحديداً أسوأ أزمة اقتصادية ـ اجتماعية، يتحمّل الجزء الأكبر من مسؤولية حصولها أناسٌ يعملون في تلك المهن.
هذا يؤكّد المؤكَّد العربيّ: تقديس الجميع سينمائياً وتلفزيونياً وواقعياً، لأنّ نقيض ذلك يُعتبر، في الثقافة التربوية الجماعية، مُسيء لصورة يُراد لها أن تبقى نقية وطاهرة، بينما الوقائع اليومية تقول عكس ذلك غالباً. هذا يُشير إلى المعروف أصلاً: كلُّ بوح ذاتي صادق ممنوع، وللشخصيات العامة صورة مقدَّسة يُمنع المسّ بها. كلّ كتابة ذاتية تجنح إلى شيءٍ من البوح الذاتيّ الحقيقي، تتعرّض لغضبِ عائلة وقبيلة وجماعة، فعلى العفن أنْ يبقى داخلياً، وأنْ يُغلق عليه إلى الأبد.