الصين والدول المغاربية.. محاذير ومخاطر
يعود الترحيب باهتمام الصين الاقتصادي بالمنطقة المغاربية، لاسيما بالجزائر والمغرب، إلى عاملين متداخلين: عزوف غربي عن الاستثمار في بعض القطاعات، واستخدام ذريعة الاستقرار والأمن؛ وقبول الصين إنجاز مشاريع ضخمة، تعتمد على يد عاملة ضخمة، بغضّ النظر عن الوضع الأمني، واهتمامها بقطاعات أساسية بالنسبة للاقتصاديات المغاربية، مثل الأشغال العمومية والبنى التحتية (تستحوذ الصين على أغلبية مشاريع الأشغال العمومية في الجزائر). أما الدول الغربية فتهتم، وبشكل شبه حصري، ببعض القطاعات كالطاقة، والخدمات (مثل القطاع المصرفي). ومن المفترض أن يعود الولوج الصيني إلى الأسواق المغاربية بمزيد من المكاسب الاقتصادية على الأخيرة، لأنه سيجعل القوى الغربية تعيد النظر في استراتيجياتها التعاونية معها، وتتوقف على التحرك في المغرب العربي، وكأنها في منطقةٍ، الأمور فيها محسومة سلفاً، لصالح الطرف الغربي.
بيد أن للوجود الصيني في المنطقة مخاطر يجب الانتباه إليها. أولها، الحضور المتزايد للعمالة الصينية الوافدة يطرح إشكالا اقتصادياً واجتماعياً على الدول المغاربية. لذا، يتعين الاهتمام به قبل فوات الأوان. فوجود هذه العمالة بشكل ضخم في دول تعاني بطالة مرتفعةً يثير تساؤلات حول استراتيجياتها الاقتصادية، وسياساتها في ما يتعلق بتكوين عمالة محلية (يمثل الصينيون حوالي نصف العمالة في قطاع البناء في الجزائر). ويبقى شرط اعتماد الشركات الصينية العاملة في الجزائر على العمالة المحلية، بنسبة حوالي 20% من إجمالي عمالتها، ضئيلاً بالنظر لحجم البطالة في البلاد والمشاريع الضخمة المعنية. هذا على الصعيد الاقتصادي البحت، أما على الصعيد الاجتماعي-الأمني، فإن وجود مثل هذه العمالة، وخصوصاً فئة صغار التجار، تتسبب في مشكلاتٍ، كما تدل على ذلك المواجهات، من حين إلى آخر، بين تجار صينيين وجزائريين في أحياء تجارية، كالتي شهدها حي في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية صيف 2009، أوقعت جرحى، وكادت أن تتحول إلى حادثة دبلوماسية بين البلدين. وهذا ليس حالة نادرة في أفريقيا، فمع تزايد العمالة الصينية في القارة تزداد الاعتداءات على المصالح الصينية في أفريقيا (كاميرون، السنغال، نيجيريا...). وتعتبر الجزائر أول وجهة للعمالة الصينية في المغرب العربي، فالصينيون يشكلون حوالي نصف العمالة في قطاع البناء في الجزائر، يعيش بعضهم ظروفاً صعبة. ولم يعد يتردد العمال الصينيون في التعبير عن استيائهم. فقد تظاهر بعضهم أخيراً في إحدى ولايات الشرق الجزائري، في مسيرة سلمية للتنديد بظروف العمل والعيش الصعبة التي تفرضها عليهم الشركات الصينية المستقدمة لهم. وتستحوذ جنوب أفريقيا وحدها على نحو ربع المبادلات الأفريقية-الصينية.
ثانيها، مخاطر إغراق الأسواق الوطنية المغاربية بمنتجات صينية رديئة، تضر باقتصادياتها وبالصحة العمومية، كما تقضي على المنتجات المحلية، لعدم قدرتها التنافسية. وأصبح غزو المنتجات الصينية الأسواق المغاربية هاجساً حقيقياً. ففي المغرب، يواجه قطاع النسيج الذي يتصدر صادرات البلد، ويوظف حوالي ثلث العمالة، منافسة صينية قوية، حيث بإمكان المنتجات الصينية أن تسوّق منتجات بنصف أسعار المنتجات المغربية. وتعاني تونس من المشكلة نفسها، وسبق لرجل أعمال تونسي أن لخص الوضع، في منتصف العقد الماضي، بقوله إن تكلفة سروال "جين" في تونس تبلغ حوالي ثمانية أورو، بينما يباع السروال نفسه في الصين بحوالي ستة أورو. بمعنى أن المنتجات المغربية والتونسية، وحتى الجزائرية، بتكلفتها المرتفعة، لا يمكنها منافسة المنتجات الصينية (سعر التكلفة أقل بكثير). ومن هنا، فالزحف الاقتصادي القوي للصين لا يدمر فقط قدرة المنتجات المغاربية على المنافسة في السوق الأوروبي (كانت تونس أول مورد للمواد النسيجية لفرنسا، لكن الصين تجاوزتها في 2003)، بل يهدد مصيرها في عقر دارها. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن الإستراتيجية التجارية الصينية حيال الاتحاد الأوروبي لا تختلف كثيراً عن المتبعة اتجاه الدول المغاربية. والسبيل الأنجع لتجنب هذه المخاطر هو تشديد مراقبة جودة المنتجات المستوردة، وإجبار المستوردين على احترام دفتر شروطٍ، يتبنى المواصفات والمقاييس المتقدمة، كالتي يعمل بها الاتحاد الأوروبي.
ثالثها، مخاطر إحلال التبعية للصين مستقبلاً محل التبعية للاتحاد الأوروبي، وبالتالي، يبقى المغرب العربي تابعاً لقوى خارجية، وما يتغير هو هوية هذه القوى، وليس بنية العلاقة الاقتصادية معها. ومن هنا، يثير الوجود الصيني في المنطقة تقريباً الإشكالات نفسها التي يثيرها في الاتحاد الأوروبي، لكن الفرق الجوهري أن المغرب العربي في حالة تبعية للخارج. إن الطرف الأضعف في العلاقة الاقتصادية هو نفسه بغض النظر عن هوية الشريك الاقتصادي، فلى الرغم من الحضور الصيني القوي في أفريقيا، تبقى القارة مهملة الثقل تماماً في التجارة الخارجية للصين. وتستحوذ جنوب أفريقيا وحدها على ما نحو ربع المبادلات الأفريقية-الصينية. ومن أبرز شركاء الصين في أفريقيا نجد أربع دول عربية (مصر والمغرب والجزائر والسودان). ويبقى الميزان التجاري في صالح الصين على حساب الدول الأفريقية، كما الشأن مع القوى الأخرى (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة). وخلاصة القول أن العلاقة الصينية-المغاربية علاقة تبعية تقليدية، تنفرد بميزتين: التوافق الاستراتيجي-القيمي (لا يرقى إطلاقاً إلى مصاف التحالف) والعمالة الصينية الوافدة، وهذا ما يجعل التعاطي معها يختلف بعض الشيء عن التعامل مع القوى الغربية.