الناظر إلى وعود وتصريحات مسؤولي النظام السوري وإعلانه عن أضخم موازنة في تاريخ سورية يبلغ حجمها 3382 مليار ليرة وعجز 42%، يبدو له أن 2019 هو عام البناء والانتعاش الاقتصادي من أوسع أبوابه. صورة قصد نظام الأسد ترويجها لتغطية قصوره وفشله في الجانب الاقتصادي والاجتماعي عبر تجميل الأرقام وتضخيمها.
أما ما تم إنجازه وكيف أنفقت الأموال، وهل نجحت حكومته في تحقيق أهداف موازنة العام الماضي، فهذا ليس من اختصاصها، ولا وجود لكلمة مراجعة وميزانية في قاموسها بنهاية العام، ولا حتى خدمة المواطن أيضاً.
على العموم، تعايش السوريون بعد الثورة، كما قبلها، مع عدم الشفافية والتكهن بالأرقام الاقتصادية، وكذا مع الفساد المستشري، لكن لم ولن يتعايشوا مع الواقع؛ فالأزمة هي أزمة مهما جمّلها النظام بهول الأرقام المرتفعة والبيانات المزيفة.
عجز مالي بلا هدف
منذ بداية الثورة والنظام يقدّم في موازنته عجزاً مالياً بدون توضيحات اقتصادية مقنعة. من حيث المبدأ، قد يكون العجز المالي أداة بناء عند الحكومات، كبُرت نسبته أم صغُرت، تستثمره في مشاريع واستثمارات وإصلاحات تسهم في انتعاش الاقتصاد، واتباع عملية تنموية واضحة يشارك فيها القطاع الخاص، تؤدي إلى نمو جحم الناتج الإجمالي عاماً تلو العام، وخلق فرص عمل واعدة، والدخول في دورة إنتاجية كاملة.
تقابل هذا إجراءات حكومية مقنعة في سبيل تخفيض ذلك العجز، وإدارة الدين العام بشكل رشيد، وضبط معدل التضخم والميزان التجاري وتسهيل عملية الاستثمار قدر الإمكان. والأهم هو إعلان بيانات وأرقام المؤشرات الاقتصادية بشكل دوري، بحيث تساعد المستثمر في تقييم الوضع الاقتصادي وصناعة قراره في البقاء أو التخارج. وهنا تُبرز الحكومة مهارتها في إدارة أبجديات الاقتصاد والحفاظ على وضع متوازن، مع الاستمرار في تحقيق معدلات نمو اقتصادية.
أما في حالة حكومة النظام السوري، فهي تقر بعجوزات مالية من دون إصدار تقرير حول النتائج والبيانات الاقتصادية للسنة السابقة ومراجعتها، فينعدم جانب الشفافية ويكثر الفساد، وهذا كفيل بعدم وصول أموال إعادة الإعمار إليه، فضلا عن الاستثمارات الأجنبية.
وجد النظام أن أسهل طريقة لتمويل حربه وانتهاكاته؛ هي التمويل بالعجز من دون تغطية بالذهب أو الإنتاج؛ أمام تراجع الإيرادات وفقدان سيطرته على المعابر والنفط والغاز، وشلل قطاعي الصناعة والزراعة، وفرض العقوبات الأميركية والغربية، بينما لا يكذب الواقع هول الأرقام المخيبة وحجم الهوة في الاقتصاد التي أنهكت المواطن وزادت من أعباء المعيشة، فيتحول العجز في هذه الحالة إلى أداة هدم للاقتصاد بدل بنائه، يُسهم في زيادة الدين العام ومعدل التضخم، ويحمّل الاقتصاد والمواطن مشاكل وأزمات لا طاقة لهما بها.
يُنظر للعجز المالي من منظورين؛ الأول محاسبي، والثاني اقتصادي اجتماعي. وقد تراوح العجز المالي في الموازنة العامة بسورية، خلال السنوات الماضية، بين 39% في 2012 و42.8% في 2019 وبلغ الذروة في 2013 عند 56%.
لا تعطي النظرة إلى العجز المالي من منظور محاسباتي والاكتفاء بمتابعة حالة الرصيد المالي، صورة كاملة عن الاقتصاد، والأصح التطرق إلى جانب عجز الموازنة من منظار اقتصادي اجتماعي، والذي يمثل الآثار السلبية التي تنجم عن السياسة المالية والمنهج المتبع في إعداد الموازنة وتنفيذها.
وما بين المنظورين، تكون العلاقة طردية أو عكسية، بمعنى قد يكون العجز المالي المحاسبي كبيراً فيما يكون العجز الاقتصادي الاجتماعي إيجابياً، وقد يترافق عجز الموازنة المالي المحاسبي مع آثار سلبية على المتغيرين الاقتصادي الاجتماعي. فكيف هو الوضع في سورية؟
عجز مالي يرافقه فشل اقتصادي
لعل النظر في الأرقام من المنظور المالي المحاسبي أخف وطأة من هذا الجانب الذي يبوح بين جنباته ما يعانيه المواطن السوري من أزمات وتكاليف معيشية تفوق قدرته على التحمل.
فلا يزال متوسط الأجور السوري البالغ 35 ألف ليرة لا يتناسق مع الحدود الدنيا لتكاليف المعيشة، وعليه ينبغي أن يزداد لأكثر من 8 مرات، ليستطيع صاحب الأجر أن يعيل أسرة من خمسة أشخاص ويؤمّن سلة الاستهلاك الضروري، والبالغ كلفتها في نهاية عام 2018، 310 آلاف ليرة، بحسب مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة.
ويجب رفع الأجر قرابة 3 مرات، ليستطيع المعيل أن يؤمّن الغذاء الضروري البالغ تكلفته 99 ألف ليرة لأسرة من خمسة أفراد، وهو ما أدى بشريحة كبيرة من الشعب السوري إلى أن تقبع تحت خط الفقر. فالمفترض أن يزيد الأجر 7 مرات ليصل إلى حد الفقر 238 ألف ليرة، بحسب مؤشر قاسيون، لتأمين الحاجات الخمس الأساسية؛ الغذاء والمسكن والملبس والصحة والتعليم.
وتفيد الأرقام بأن هناك عجزا في تأمين مادة الغاز المنزلي بواقع 50% (550 طنا يومياً). ووفق الوضع الاقتصادي الراهن الذي تمر به سورية، فإن حل أزمة الغاز أكبر من الوعود التي يقدمها النظام للمواطن.
كما تراجعت المحاصيل الزراعية الأساسية في 2018، وبلغ إنتاج القمح، المادة الرئيسية في صناعة الخبز، أدنى مستوياته منذ 29 عاماً، بحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، في تقرير لها في 9 تشرين الأول 2018، إذ لم يتجاوز إنتاج القمح في العام الماضي 1.2 مليون طن، حيث تم تنفيذ 61% من المساحات المخطط زراعتها، في حين لم تتعد المساحات المحصودة 18% من المساحات المزروعة، وهو ما استدعى النظام إلى عقد صفقات شراء قمح من روسيا، بينما كانت سورية تتمتع بالاكتفاء الذاتي من هذه المادة سابقاً، ويعد هذا سبباً وجيهاً لارتفاع أسعار الغذاء.
وفي التجارة، ترافق افتتاح معبر نصيب بين الأردن وسورية ووعود النظام بتحسّن الأوضاع، مع ارتفاع الأسعار، لا سيما في الخضار والفواكه، بعد شحن كميات كبيرة منها عبر المعبر بغرض التصدير، مسببة نقصانها في الأسواق المحلية، كما تراجعت أيضاً الليرة إلى أدنى مستوياتها منذ عام، لتبلغ 535 ليرة أمام الدولار، بشكل خالف التوقعات من تدفق العملة الأجنبية نتيجة زيادة الصادرات.
في جانب الصناعة، زاد عدد المنشآت العاملة، العام الماضي، في حلب مثلا بنسبة 57%، ولكن بدون استثمارات ملموسة، حيث قدرت قيمة الصادرات السورية، في الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، بـ474 مليون دولار فقط، وهذا رقم خجول جداً قياساً بأرقام صادرات عام 2010 التي بلغت آنذاك 8.8 مليارات دولار.
بالنسبة لإعادة الإعمار، خصصت موازنة 2019 نحو 50 مليار ليرة لتوفير فرص العمل وإعادة الإعمار، بينما قدرت تكاليف العملية بـ400 مليار دولار. ولا مجال للقياس هنا، فهذه إشارة إلى أن النظام لا يكيل للعملية اهتماماً كبيراً في موازنته، وفي حال أقر الرئيس الأميركي مشروع "قانون قيصر"، فإن الاقتصاد السوري سيرى مرحلة جديدة من الانحدار ناجم عن شدة العقوبات التي ستقر حسب القانون، إذ ستمس الشخصيات والكيانات والدول التي تساعد النظام السوري، وآنذاك قد لا تكون هناك إعادة إعمار من الأصل.
عقلية النظام ومقاربته في حلحلة الملف الاقتصادي والسياسي لم تتغير، ولا يزال الأولى بالنسبة له هو سَوق الشباب للعسكرية واستكمال السيطرة على باقي مناطق المعارضة والمناطق الأخرى، بدون أدنى مسؤولية من سيبني البلد إذا وضع الشباب على الجبهات. كل هذا ولم نتطرق بعد إلى حجم الدين البالغ، بحسب مصادر، 60 مليار دولار لروسيا وإيران بالدرجة الأولى.
ق