العدو الصديق .. وأزمة المياه في الحسكة السورية
عانى أهالي الحسكة في سورية من أزمة متكرّرة في الحصول على مياه الشرب والاستعمالات المنزلية، منذ سيطرت تركيا على منطقة رأس العين في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، غير أن الأزمة تفاقمت في الأسابيع الماضية (بدءاً من 13 أغسطس/ آب 2020)، مع تبادل الاتهامات بالمسؤولية بين الجيش التركي وربيبه "الوطني" والإدارة الذاتية (الكردية)، إلى أن وجدت الأزمة حلاً (حل قلق بالتأكيد، لأنه خاضع للتقلبات السياسية الكثيرة والسريعة) في الأيام الأخيرة بتواسط روسي، وفق صيغة الماء مقابل الكهرباء، فإن من يسيطر على محطة علوك لضخ الماء "يعادي" من يسيطر على محطة مبروكة لضخ الكهرباء، وكالعادة تستخدم الحاجات الحيوية للناس في ممارسة العداء بين الأطراف المتصارعة.
ينبغي ألّا ننسى أن هذا يجري باسم قضايا كبرى (لا تقل عن حقوق الشعوب في الحرية والكرامة)، يناضل من أجلها طرفان سوريان، ويستنجد كل منهما، ضد الآخر، بكل السبل المتاحة. كذلك تنبغي ملاحظة أن النظام السوري (أصل الداء) بات في معمعة صراع هذين الطرفين السوريين طرفاً ثالثاً، يدخل في حل مشكلاتٍ كهذه عبر الوسيط الروسي.
لا بد من تسوياتٍ سياسيةٍ لحل أبسط المتطلبات الاقتصادية للسكان المحكومين للأطراف المتصارعة
من الراجح أن تفاقم أزمة الماء أخيراً في الحسكة نجم عن سوء تقدير من "الإدارة الذاتية" التي ظنت أنها تستطيع، بعد أن حفرت نحو 50 بئراً في منطقة الحمّة، الاستغناء عن محطة مياه علوك (المغذّي الرئيسي لمدينة الحسكة وتل تمر، أي ما يقارب مليون نسمة). وعليه، قطعت الإدارة الكهرباء عن منطقة رأس العين وتل أبيض، فكان الرد بقطع المياه "لأن مضخّات الماء لا تعمل من دون كهرباء"، بحسب رواية "المحتل التركي" عن تفسير الأزمة المستجدّة. قد تشكل هذه الرواية إجابة عن السؤال المعلق: لماذا لم تقطع الماء بهذه الصورة طوال الأشهر الماضية من السيطرة التركية على رأس العين؟ صحيحٌ أن موضوع المياه في الحسكة كان دائماً محل أزمات متكرّرة، ولكنها المرة الأولى التي تصل إلى هذا المستوى الذي هدّد السكان بالعطش في المنطقة التي تسمّى "أم الأنهار".
في هذه الحال التي تقطّعت بها سورية، باتت المراكز الاقتصادية الحيوية في البلاد واقعة تحت سيطرة أطراف متعادية، صار لا بد من تحييد العداوات قليلاً، للسماح بتدفق العلاقات الاقتصادية، أو لا بد من تحقيق تسوياتٍ سياسيةٍ لحل أبسط المتطلبات الاقتصادية للسكان المحكومين لهذه الأطراف. حتى بات من المألوف تدخّل قوى خارجية عظمى لتحقيق تسوية ترضي هذا الطرف أو ذاك، فيسمح للأهالي بالماء أو الكهرباء أو النفط أو القمح أو الخضار... إلخ، كما بات من المألوف أن يتوقف فتح معبر حدودي على قرار من مجلس الأمن.
البؤس الاقتصادي للأهالي يجري استيعابه أنه جزء من "المقاومة" والنضال ضد "العدو" الذي يتحدد في كل منطقة بما يوافق "الصديق"
البؤس العام الذي يعيشه السوريون في كل مكان، وتحت كل السيطرات المتوافرة على الأرض السورية، لم يشكل أساساً لحملةٍ سوريةٍ عامة، توحّد "البائسين" في وجه المسيطرين، حتى بعد أن تكشّف لكل مبصر أن هؤلاء المسيطرين من طينة واحدة، وأن وراء لغاتهم المتباينة يكمن لبٌّ واحدٌ اسمه "السلطة". لا يزال السوريون يستسلمون لانقسامات سياسية فارغة المحتوى بين القوى العسكرية المسيطرة، ويقاومون قوة واقعهم الاقتصادي البائس الذي يدفعهم إلى التوحد.
يتعامل الخارج أيضاً مع الواقع السوري المفتت، وفق المنظور نفسه الذي يوحّد بين المسيطريْن، المحلي والمحكوم. لم تعد سورية في نظر القوى الخارجية بلداً واحداً، بل مناطق نفوذ متصارعة. لا تبدو أزمة المياه أو الكهرباء في الساحل مثلاً محل اهتمام، ما دام لا يندرج في أسبابها المباشرة عدوٌّ ما، كي يزدهر الكلام عن جرائم الحرب وعن انعدام الأخلاق والإنسانية... إلخ. وفيما تصبح قضية المياه في الحسكة قضية عالمية (وهذا، على كل حال، مما يُحسب للفاعلين في الإدارة الذاتية وللقائمين على الحملات الإعلامية)، يكتب عنها ويتفاعل معها سياسيون وفنانون وكتّاب، يعاني أهالي أدلب والمخيمات من شحّ الماء، ويبقى الأهالي في ريف الساحل السوري أسبوعين وثلاثة أسابيع، من دون ماء، وبصورة متكرّرة، ويصبح سعر برميل الماء ألف ليرة سورية، هذا إذا توافر. مع العلم أن متوسط الراتب في هذه المناطق 60 ألف ليرة، من دون أن يتحرّك ساكن، لا في الداخل ولا في الخارج. لا بد من توافر عدو خارجي لتوجيه النار، فيما يبدو العدو المحلي من أهل البيت، ولظلمه طعم "المقاومة" لا طعم "الحسام المهند"، كما كان الحال في زمن الشاعر.
لم يعد التردّي المعيشي يكتسب معنىً سياسياً في عيون السوريين، إلا حين يندرج في أسبابه "عدو" ما
بعد أن تحطّمت ثورة السوريين وورثتها سلطات أمرٍ واقع بلا أي عمق سياسي وطني، لم يعد التردّي المعيشي يكتسب معنىً سياسياً في عيون السوريين، إلا حين يندرج في أسبابه "عدو" ما. عندئذ فقط يمكن أن تتوحد الإرادات النخبوية والشعبية ضد العدو، سوى ذلك فإن البؤس الاقتصادي للأهالي يجري استيعابه على أنه جزء من "المقاومة" والنضال ضد "العدو" الذي يتحدد في كل منطقة بما يوافق "الصديق"، أي القوة المسيطرة. لا تزال سوق العداوة الخارجية رائجة، ولا يزال للعدو وظيفة امتصاص العداوة وتبرير أوساخ السلطة المحلية المسيطرة، ولا يزال العدو هو الصديق الأهم للسلطة المحلية المفروضة فرضاً على الأهالي.
على خلفية التدهور المعيشي الكبير للسوريين في كل مكان، ألا يمكن استلهام النجاح الذي تحققه حملات التواصل والحملات الإعلامية ضد عدوانات "العدو"، مثل حملة الحسكة عطشى، لشن حملات مستمرّة توحّد السوريين المحكومين في كل مكان، أو توحّد على الأقل النخب السورية غير المنخرطة في مكنات السلطات المستجدّة أو القديمة، ضد عدو مشترك مكون من سلطات الأمر الواقع في شتى مناطق سورية؟ هل بقي في سورية رأس مستقل يشكّ في أن لهذه السلطات طبيعة واحدة، مكونة من فساد وتبعية سياسية وقمع و"عداء" للأهالي، الأهالي الذين يوحّدهم البؤس الواقعي، وتفرّقهم أوهامٌ تغذيها تعبئاتٌ سياسيةٌ متباينة، ولكن مضمونها الوحيد "تعزيز السلطة القائمة وتأبيدها في أيدي أهل السلطة"؟ إلى متى تبقى الأوهام التي تفرّق أقوى من الواقع الذي يجمع؟