07 نوفمبر 2024
العقلنة، المأسسة، المصلحة..
يجري، في السنوات الأخيرة، تداوُل مجموعة من المفردات في الإعلام العربي، كما يجري إبرازها في أدبيات بعض التيارات السياسية، باعتبار أنها تعد، في كثير من أوجهها، عنواناً لتحولاتٍ جاريةٍ في مجتمعنا وثقافتنا، فقد أصبحت مفاهيم من قبيل العقلنة، المصلحة، المأسسة، المشاركة، على سبيل المثال، بمثابة مفاتيح مُسْتَخْدَمَة في الخطابات المرتبطة بالسِّجالات السياسية، والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، وكذا في شعارات مؤسسات المجتمع المدني. وتكشف العناية بها وبأخواتها ومرادفاتها أننا نتجه بواسطتها إلى إنجاز تمثلاتٍ محدّدة لمشروعٍ يتوخَّى تحديث الثقافة والمجتمع العربيين.
تحيل عينة المفاهيم المذكورة إلى أفق في الفكر وفي التاريخ، لا علاقة له بموروثنا القديم ومفرداته. إنها تحيل إلى سجل نظري وتاريخي جديد، يرتبط أساساً بالثورات الكبرى التي حصلت في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. نقصد بذلك أرصدة الثورات السياسية والاقتصادية وثورات التواصل والتقنية.. وقد أنجبت هذه الثورات مجتمعةً، وفي سياقات زمنية معينة، شبكةً من المفاهيم والقيم المتصلة بخياراتٍ سياسيةٍ وفلسفيةٍ كبرى. وهي تُدْرَجُ، بصور مختلفة، في أفق الفضاءات التي تتسم بالحداثة والتحديث داخل المجتمع، حيث تستوعب، في أصولها النظرية وتطبيقاتها الإجرائية، جوانب من مقدمات الحداثة ومفاهيمها في عالمنا.
تستدعي المفاهيم التي ذُكرت أعلاه مجموعة من المفردات المرادِفة أو الموضحة لطبيعتها،
الأمر الذي يوضح جوانب محددة من أبعادها وتجلياتها، ويكشف صلاتها بمنطق التحديث ومطلب الحداثة في ثقافتنا المعاصرة، فالعقلنة ترتبط بالضبط والنظام، وهي لا تستغني عن خاصية النجاعة. أما المأسسة، فلا تتم من دون حصول الشفافية ومقتضيات الحكامة، وهي تتأسس في إطار القانون، حيث تساهم ترسانة القوانين المرتبة لنظام عملها في إبعاد ما هو شخصي ومشخصن، لتستحضر ما هو موضوعي وإجرائي، وتسمح به القوانين المعتمدة في العمل، فلم يعد مقبولاً في المجتمعات الحديثة، مجتمعات المصلحة والتاريخ والتقدم، وقد اتسعت اليوم فضاءاتها وتعولمت، أن تواصل التعامل مع متطلبات التغير والتغيير بمفردات أزمنةٍ خلت. وإذا كان مؤكدا أن أغلب تلك المفاهيم ترتبط، في روحها العامة، بالمشروع السياسي الليبرالي وآلياته في العمل والإنتاج، فإننا ننظر إليها اليوم باعتبار أنها تُعَدُّ من مُقَوِّمات النجاح في عالم جديد، حيث لا مَفَرَّ اليوم من ولوج ما أصبحت تُعرف باقتصادات مجتمع المعرفة ودولة المؤسسات.
ما يختفي، ولا يُرَى بالعين المجرَّدة في المفاهيم المشار إليها، هو أنماط القيم التي تحملها من جهة، وصلتها العضوية من جهة ثانية، بمقتضيات الأزمنة الحديثة المتمثِّلة في مُدَوَّنَة القوانين والتشريعات التي تُعَدُّ أعمدة مُؤَسِّسة لقواعد العمل والعيش والإنتاج في عصرنا. وعندما نفكر في هذه المفاهيم في علاقتها المباشرة بالمجال السياسي بالذات، نتبين أنها تحيلنا إلى المشروع الديمقراطي، باعتبار أنه يعدّ اليوم من البدائل المتاحة، من دون أن يعني هذا أن إمكانية تحقيقه سهلة أو بسيطة، فنحن نعي أن المشروع الديمقراطي يواجه اليوم داخل الدول التي تمتلك رصيداً تاريخياً من منجزاته إشكالاتٍ جديدة، أما توطيد آلياته وقيمه في مجتمعاتنا فيتطلَّب العمل في جبهات عديدة، بهدف بناء أسسه النظرية والمؤسسية، القادرة على مُغالبةِ احتمال العودة إلى دولة التسلط.
ما علاقة تداول هذه المفاهيم بواقع الحال في مجتمعاتنا؟ وهل يمكن أن ننظر إلى مسألة تعميمها
في أدبياتنا السياسية باعتبار أنها مجرّد أفقٍ يتطلع إليه الجميع، وتتغنى به النخب؟ يبدو أن تزايد العناية بهذه المفاهيم وأخواتها في خطاباتنا يؤشر على أفق في الإصلاح السياسي، لا تتردد مختلف تيارات الفكر العربي في تبنِّيه، وتعميم مفرداته. ولعل ما يحصل اليوم في واقعنا العربي يؤكد هذا.
صحيحٌ أن مجتمعاتنا أبعد ما تكون عن القيم والمبادئ التي تختزنها المفاهيم التي انطلقنا منها، إلا أن انعدام وجودها هو ما يدفعنا إلى مزيد من العناية بها، والتحسيس بأهميتها في عمليات بناء مجتمع جديد، فالمأسسة محاولةٌ للقطع مع نظام التقليد، وهي تعتبر من مؤشرات المواطنة، حيث تتيح مؤسسات المجتمع المدني للمواطنين، على سبيل المثال، بلورة مواقفهم السياسية بصورة منظمة، مسؤولةٍ وواعية. وهو ما يتيح للفاعلين السياسيين والجمعويين والنقابيين تبليغ رسائلهم ومواقفهم، لمن يعنيهم أمرها في أجهزة الدولة، بصورةٍ واضحة، وبالوسائط المعترف بها قانونيا.
ليس المقصد هنا الإشارة إلى أن المأسسة تستدعي المساءلة لقياس الكفاءة والفاعلية، والنجاعة في التدبير. ومن هنا يمكن القول إن مستقبل الديمقراطية في مجتمعنا مرتبط بإرساء أنماط جديدة من عقلنة المجتمع، عقلنة نظامه السياسي، وعقلنة مشهده الحزبي.. حيث تشكل المأسسة اليوم المظهرَ الأهمَّ لترتيب المجتمع، في دوائر وشبكات قادرةٍ على تمثيل مختلف فئاته، وإشراكها في الفعل السياسي.
تحيل عينة المفاهيم المذكورة إلى أفق في الفكر وفي التاريخ، لا علاقة له بموروثنا القديم ومفرداته. إنها تحيل إلى سجل نظري وتاريخي جديد، يرتبط أساساً بالثورات الكبرى التي حصلت في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. نقصد بذلك أرصدة الثورات السياسية والاقتصادية وثورات التواصل والتقنية.. وقد أنجبت هذه الثورات مجتمعةً، وفي سياقات زمنية معينة، شبكةً من المفاهيم والقيم المتصلة بخياراتٍ سياسيةٍ وفلسفيةٍ كبرى. وهي تُدْرَجُ، بصور مختلفة، في أفق الفضاءات التي تتسم بالحداثة والتحديث داخل المجتمع، حيث تستوعب، في أصولها النظرية وتطبيقاتها الإجرائية، جوانب من مقدمات الحداثة ومفاهيمها في عالمنا.
تستدعي المفاهيم التي ذُكرت أعلاه مجموعة من المفردات المرادِفة أو الموضحة لطبيعتها،
ما يختفي، ولا يُرَى بالعين المجرَّدة في المفاهيم المشار إليها، هو أنماط القيم التي تحملها من جهة، وصلتها العضوية من جهة ثانية، بمقتضيات الأزمنة الحديثة المتمثِّلة في مُدَوَّنَة القوانين والتشريعات التي تُعَدُّ أعمدة مُؤَسِّسة لقواعد العمل والعيش والإنتاج في عصرنا. وعندما نفكر في هذه المفاهيم في علاقتها المباشرة بالمجال السياسي بالذات، نتبين أنها تحيلنا إلى المشروع الديمقراطي، باعتبار أنه يعدّ اليوم من البدائل المتاحة، من دون أن يعني هذا أن إمكانية تحقيقه سهلة أو بسيطة، فنحن نعي أن المشروع الديمقراطي يواجه اليوم داخل الدول التي تمتلك رصيداً تاريخياً من منجزاته إشكالاتٍ جديدة، أما توطيد آلياته وقيمه في مجتمعاتنا فيتطلَّب العمل في جبهات عديدة، بهدف بناء أسسه النظرية والمؤسسية، القادرة على مُغالبةِ احتمال العودة إلى دولة التسلط.
ما علاقة تداول هذه المفاهيم بواقع الحال في مجتمعاتنا؟ وهل يمكن أن ننظر إلى مسألة تعميمها
صحيحٌ أن مجتمعاتنا أبعد ما تكون عن القيم والمبادئ التي تختزنها المفاهيم التي انطلقنا منها، إلا أن انعدام وجودها هو ما يدفعنا إلى مزيد من العناية بها، والتحسيس بأهميتها في عمليات بناء مجتمع جديد، فالمأسسة محاولةٌ للقطع مع نظام التقليد، وهي تعتبر من مؤشرات المواطنة، حيث تتيح مؤسسات المجتمع المدني للمواطنين، على سبيل المثال، بلورة مواقفهم السياسية بصورة منظمة، مسؤولةٍ وواعية. وهو ما يتيح للفاعلين السياسيين والجمعويين والنقابيين تبليغ رسائلهم ومواقفهم، لمن يعنيهم أمرها في أجهزة الدولة، بصورةٍ واضحة، وبالوسائط المعترف بها قانونيا.
ليس المقصد هنا الإشارة إلى أن المأسسة تستدعي المساءلة لقياس الكفاءة والفاعلية، والنجاعة في التدبير. ومن هنا يمكن القول إن مستقبل الديمقراطية في مجتمعنا مرتبط بإرساء أنماط جديدة من عقلنة المجتمع، عقلنة نظامه السياسي، وعقلنة مشهده الحزبي.. حيث تشكل المأسسة اليوم المظهرَ الأهمَّ لترتيب المجتمع، في دوائر وشبكات قادرةٍ على تمثيل مختلف فئاته، وإشراكها في الفعل السياسي.