المشهد ذاته يتجول في أرجاء الولايات الأميركية، من المدرسة إلى مكان العمل والحرم الجامعي ودور العبادة وأماكن التجمع العام وأرصفة الشوارع وصالات السينما وغيرها. وبعد كل جولة عشوائية تتكرر الأسطوانة ذاتها: عبارات الأسف وتعبيرات القلق وانتعاش الدعوات والمطالبات بضرورة معالجة هذا الوباء. لكن سرعان ما تنتهي الهبّة لتستمر المجزرة التي تزيد حصيلة ضحاياها بالجملة والمفرق، عن 30 ألف قتيل سنوياً.
السلاح في الولايات الأميركية سلعة مثل غيرها في السوق، الحصول عليها من محلات مخصصة لهذه التجارة، لا يتطلب أكثر من تقديم معلومات شخصية أولية عن المتسوّق. يختار ما يريد من النوعية والكمية. ومنها الرشاشات المستخدمة في ساحات الحروب، صار منها بحوزة الأميركيين ما يوازي عدد سكان البلاد. يستخدم للحماية وأيضاً كهواية تمارس في أماكن للتدريب على استعماله، خاصة في الجنوب والوسط الغربي، وفي بعض الولايات والمقاطعات يمكن حمله وأحياناً بصورة مكشوفة.
المشكلة الأكبر تكمن في السكوت عن هذا الانفلات اللامعقول الذي لم تقوَ كل المحاولات على ضبطه، والكونغرس هو الساكت الأكبر، فحتى الآن وعلى الرغم من كافة الضغوطات يرفض بمجلسيه النواب والشيوخ، سن قانون لمنع وصوله على الأقل إلى أصحاب السوابق والمضطربين عقلياً. الممانعة كاسحة، خاصة في صفوف الجمهوريين، وراءها يقف لوبي الأسلحة النافذ الذي يوظف قدراته الانتخابية والمالية لمنع صدور أي تشريع يحد من حرية اقتناء السلاح. يتلطى بنص في الدستور جرى ليّ عنقه لجعله في منزلة الامتياز الثابت الذي لا يجوز مسّه. والمعروف أن لهذا النص حيثياته المرتبطة بظروف المرحلة الأولية من بناء الجمهورية، إذ أشار إلى "حرية امتلاك وحمل السلاح لا يجوز انتهاكها". لكن ذلك ورد في سياق "تشكيل مليشيات مسلحة" لحماية الدولة التي لم يكن لديها جيش في ذلك الوقت.
مصالح شركات الأسلحة والقوى الناطقة باسمها عملت على تحويل هذه الحرية المرتبطة بزمانها إلى حق غير قابل للتصرف. وتأسيساً على ذلك نشأت ثقافة السلاح المقترن بالعنف المنفلت ونزيفه الدموي وبنت لنفسها حصانة عمل اللوبي على حراستها من خلال ضمان عدم صدور قوانين رادعة من الكونغرس. فهذا الأخير تتحكم بتشريعاته وإلى حد بعيد كتل الضغط خاصة الوازنة منها مثل اللوبي الإسرائيلي ولوبي شركات التأمين والأدوية والمحاربين القدامى وغيرها من كتل الضغط التي تشارك في أحيان كثيرة في كتابة نص مشاريع القوانين أو في تمرير الصيغ التي ترتئيها إلى جماعاتها في مجلسي الشيوخ والنواب.
غض النظر عن العنف المستشري في الولايات المتحدة الأميركية فضيحة كبيرة. وشلل الكونغرس إزاء هذا الخصوص، فضيحة الفضائح. لا مثيل لهذه الحالة في العالم الصناعي المتقدم. دول كثيرة مثل أستراليا وأخيراً نيوزيلندا، تخلّصت بسرعة وسهولة من السلاح وكوارثه المدنية. العقدة في الولايات المتحدة أن أصحاب القرار وضعوا السلاح قبل الحياة. معادلة تتحدث عنها جهات أميركية مختلفة بكثير من التخوف والخجل.