10 نوفمبر 2024
المهمّشون قادمون
وُصفت ثورات الربيع العربي بأنّها تمثّل الطبقة الوسطى والأجيال الشابّة الجديدة المعولمة التي تسعى إلى تغيير الأنظمة الدكتاتورية نحو أنظمة ديمقراطية، والخروج من حالة الانسداد السياسي التي هيمنت على حالة الأنظمة العربية غداة تلك الثورات، أو قبل العام 2011.
لم تعد هنالك شرعيات صلبة متماسكة لدى الأنظمة العربية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والدخول في محادثات السلام، وحربي الخليج الأولى 1990 والثانية 2003، إذ انكشفت كل الأوراق التي كانت تستر الأوضاع السياسية، لم تبق كاريزميات، ولا أيديولوجيات تجمع الجماهير، ولم تعد شعارات مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مقنعة لأحد.
على النقيض من ذلك، هدم معول الفساد أي بناء للشرعية السياسية، بل حفر في عمق التربة نفسها التي تأسست عليها الأنظمة بصيغها المختلفة، وجاء التوريث في الجمهوريات الملكية ليؤكّد انكشاف الشرعية السافر، ولم يبق أمام الشارع إلّا التفكير في التغيير، فجاءت الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها العربية لتشعل الطبقة الوسطى، وقد كانت قبل ذلك مقتنعة، ولو بصورة غير رسمية، بمقايضة الوضع الاقتصادي الجيّد بالتنازل عن الحق في الاختيار السياسي. ومع انهيار المعادلة الاقتصادية، لم تعد السياسة قادرة على الصمود والبقاء.
جاء الربيع العربي، وحمل معه أحلاماً وآمالاً عريضة للشعوب بالتغيير والإصلاح والخروج من الواقع الكارثي، لكن النتيجة لم تكن أفضل، إذ انقلبت الطموحات بالتغيير، في بعض الدول، إلى فوضى وحروب داخلية، وصراعات مسلّحة، وفي أخرى رُمّمت الأنظمة الدكتاتورية، وحتى الدول التي عبرت تلك المنعرجات، ودخلت في طور جديد، مثل المغرب وتونس، سياسياً، سواء بالثورة أو الإصلاح السياسي، فإنّ الأزمة الاقتصادية ابتلعت الأحلام السياسية، وذوّبت شموع التحرّر والحرية.
الآن، من يرصد ما يحدث في دول ومجتمعات عربية عديدة يلمح مؤشرات خطيرة يمكن تلخيصها بأنّ الثورات أو الاحتجاجات القادمة لن تكون سلمية أو معتدلة أو مرتبطة بالطبقة الوسطى على الأغلب الأعمّ، بل بالطبقات الأكثر تهميشاً وفقراً وشعوراً بالحرمان، وذات بعد طبقي - اجتماعي. من لا يملكون، المحرمون والمهمّشون، هم الذين لن يجدوا ما يخسرونه أو يهدّدون به، وقد تكون حالة الفوضى أو الانفجار أفضل لهم من الوضع الراهن، وهذا أخطر ما في الموضوع.
احتجاجات البصرة (قبل أسابيع) ذات طابع اجتماعي- خدماتي، وكذلك احتجاجات الريف المغربي، واحتجاجات العاطلين من العمل في تونس، والمحافظات الأردنية التي طردت الوفود الوزارية، والمهمّشون في العراق وسورية، في أماكن اللجوء والنزوح، وخصوصا من الأجيال الشابّة التي وُلدت في قلب هذه المعاناة والكوارث.
نحتاج اليوم مختبر دراسات وأبحاث اجتماعية لقراءة التحولات في المجتمعات العربية، وتفكيكها، سواء كنّا نتحدث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أو الحروب الداخلية والأهلية، والنزعات الطائفية، وتفكّك الهويات الوطنية وبروز الهويات الفرعية، أو كنّا نتحدّث عن الإنترنت والشبكيات التي أوجدت ثقافات جديدة مختلفة كليا، وأطاحت الجدران النفسية السابقة المعجونة بالخوف من السلطة ومن التغيير.
تفتح هذه التطورات اليوم المجتمعات العربية على أبواب واسعة، مختلفة كليا عن المراحل السابقة. ولكن لماذا نتوقع أن تكون الأحداث المقبلة أقرب إلى المهمّشين، اقتصادياً وسياسياً، وليس الطبقة الوسطى، لأنّ هذه الطبقة، على الرغم من كل الضغوط، لا تزال قادرة على التكيّف، ولو جزئياً. وأيّاً كانت طموحاتها، تفضّل الاستقرار على الفوضى والتفكّك، وتخشى من مستقبلٍ أكثر سوءاً من الواقع الحالي. أما الفقراء، المحرومون، المهمّشون، فغاضبون ليس فقط من السلطة، بل من الطبقات الثرية، والوسطى، ممن يملكون، أو يقدرون على التأقلم مع الأوضاع الحالية، فهؤلاء (المهمشّون) لا يرون في الخطابات العقلانية والهادئة حلاًّ في أحيان كثيرة، بل أسلوباً لتخديرهم وإبقائهم في الأوضاع الراهنة، التي لا تحقق مصالحهم.
متى يحدث ذلك؟ ربما تكون "نقطة التحول" Tipping Point شبيهةً بما حدث خلال ثورات الطبقات الوسطى في العالم العربي، تحدث فجأة نتيجة التراكمات المتتالية، فينمو منسوب الاحتجاج والغضب، وربما العدوى المتبادلة إلى أن يصل إلى تلك المرحلة.
بيت القصيد أنّنا، في العالم العربي، في مرحلة انتقالية، وعلى الأغلب ستستمر خلال الأعوام المقبلة، وهي محصّلة فشل متراكم سياسياً واقتصادياً، لكن من يعتقدون أنّ موجة الربيع العربي انتهت، وأنّ بالإمكان ترميم الأنظمة السلطوية، يدفعون بالاتجاه الأكثر خطورة وعنفاً..
لم تعد هنالك شرعيات صلبة متماسكة لدى الأنظمة العربية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والدخول في محادثات السلام، وحربي الخليج الأولى 1990 والثانية 2003، إذ انكشفت كل الأوراق التي كانت تستر الأوضاع السياسية، لم تبق كاريزميات، ولا أيديولوجيات تجمع الجماهير، ولم تعد شعارات مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مقنعة لأحد.
على النقيض من ذلك، هدم معول الفساد أي بناء للشرعية السياسية، بل حفر في عمق التربة نفسها التي تأسست عليها الأنظمة بصيغها المختلفة، وجاء التوريث في الجمهوريات الملكية ليؤكّد انكشاف الشرعية السافر، ولم يبق أمام الشارع إلّا التفكير في التغيير، فجاءت الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها العربية لتشعل الطبقة الوسطى، وقد كانت قبل ذلك مقتنعة، ولو بصورة غير رسمية، بمقايضة الوضع الاقتصادي الجيّد بالتنازل عن الحق في الاختيار السياسي. ومع انهيار المعادلة الاقتصادية، لم تعد السياسة قادرة على الصمود والبقاء.
جاء الربيع العربي، وحمل معه أحلاماً وآمالاً عريضة للشعوب بالتغيير والإصلاح والخروج من الواقع الكارثي، لكن النتيجة لم تكن أفضل، إذ انقلبت الطموحات بالتغيير، في بعض الدول، إلى فوضى وحروب داخلية، وصراعات مسلّحة، وفي أخرى رُمّمت الأنظمة الدكتاتورية، وحتى الدول التي عبرت تلك المنعرجات، ودخلت في طور جديد، مثل المغرب وتونس، سياسياً، سواء بالثورة أو الإصلاح السياسي، فإنّ الأزمة الاقتصادية ابتلعت الأحلام السياسية، وذوّبت شموع التحرّر والحرية.
الآن، من يرصد ما يحدث في دول ومجتمعات عربية عديدة يلمح مؤشرات خطيرة يمكن تلخيصها بأنّ الثورات أو الاحتجاجات القادمة لن تكون سلمية أو معتدلة أو مرتبطة بالطبقة الوسطى على الأغلب الأعمّ، بل بالطبقات الأكثر تهميشاً وفقراً وشعوراً بالحرمان، وذات بعد طبقي - اجتماعي. من لا يملكون، المحرمون والمهمّشون، هم الذين لن يجدوا ما يخسرونه أو يهدّدون به، وقد تكون حالة الفوضى أو الانفجار أفضل لهم من الوضع الراهن، وهذا أخطر ما في الموضوع.
احتجاجات البصرة (قبل أسابيع) ذات طابع اجتماعي- خدماتي، وكذلك احتجاجات الريف المغربي، واحتجاجات العاطلين من العمل في تونس، والمحافظات الأردنية التي طردت الوفود الوزارية، والمهمّشون في العراق وسورية، في أماكن اللجوء والنزوح، وخصوصا من الأجيال الشابّة التي وُلدت في قلب هذه المعاناة والكوارث.
نحتاج اليوم مختبر دراسات وأبحاث اجتماعية لقراءة التحولات في المجتمعات العربية، وتفكيكها، سواء كنّا نتحدث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أو الحروب الداخلية والأهلية، والنزعات الطائفية، وتفكّك الهويات الوطنية وبروز الهويات الفرعية، أو كنّا نتحدّث عن الإنترنت والشبكيات التي أوجدت ثقافات جديدة مختلفة كليا، وأطاحت الجدران النفسية السابقة المعجونة بالخوف من السلطة ومن التغيير.
تفتح هذه التطورات اليوم المجتمعات العربية على أبواب واسعة، مختلفة كليا عن المراحل السابقة. ولكن لماذا نتوقع أن تكون الأحداث المقبلة أقرب إلى المهمّشين، اقتصادياً وسياسياً، وليس الطبقة الوسطى، لأنّ هذه الطبقة، على الرغم من كل الضغوط، لا تزال قادرة على التكيّف، ولو جزئياً. وأيّاً كانت طموحاتها، تفضّل الاستقرار على الفوضى والتفكّك، وتخشى من مستقبلٍ أكثر سوءاً من الواقع الحالي. أما الفقراء، المحرومون، المهمّشون، فغاضبون ليس فقط من السلطة، بل من الطبقات الثرية، والوسطى، ممن يملكون، أو يقدرون على التأقلم مع الأوضاع الحالية، فهؤلاء (المهمشّون) لا يرون في الخطابات العقلانية والهادئة حلاًّ في أحيان كثيرة، بل أسلوباً لتخديرهم وإبقائهم في الأوضاع الراهنة، التي لا تحقق مصالحهم.
متى يحدث ذلك؟ ربما تكون "نقطة التحول" Tipping Point شبيهةً بما حدث خلال ثورات الطبقات الوسطى في العالم العربي، تحدث فجأة نتيجة التراكمات المتتالية، فينمو منسوب الاحتجاج والغضب، وربما العدوى المتبادلة إلى أن يصل إلى تلك المرحلة.
بيت القصيد أنّنا، في العالم العربي، في مرحلة انتقالية، وعلى الأغلب ستستمر خلال الأعوام المقبلة، وهي محصّلة فشل متراكم سياسياً واقتصادياً، لكن من يعتقدون أنّ موجة الربيع العربي انتهت، وأنّ بالإمكان ترميم الأنظمة السلطوية، يدفعون بالاتجاه الأكثر خطورة وعنفاً..