النار التي أكلت الأخضر قبل اليابس في سورية

15 سبتمبر 2020
+ الخط -

تندلع الحرائق مرة أخرى في ما تبقّى من غطاء أخضر على الأرض السورية. فحتى يكتمل البؤس في أعتى صوره، ويحكم الخناق على صدور من بقي من السوريين فوق أرض مقسّمة بين مناطق نفوذ واحتلالات، لم يكن ينقص غير تواطؤ الطبيعة التي لم تقصّر في سنوات الجحيم عن أن تحاصر حياة السوريين، فتلحقهم إلى البراري والفيافي، وهم هائمون من دون أية وجهة، يهربون من موتٍ محقق إلى موت ربما أكثر تحقّقًا.
في ذروة الحرّ، وأعتى موجاته، تندلع الحرائق في معظم المناطق، حماة، مصياف، اللاذقية، وفي عدة بؤر تتسارع لتلاقي بعضها، بينما الناس يستغيثون قبل أن تحاصرهم النيران، وآخرون يقضون الليالي في مقاومة الاختناق من الدخان الذي لفّ الأجواء على طول البلاد وعرضها.
ليس عبثًا تسمية حرائق الغابات بالعواصف النارية، فهي تشبه الأعاصير، ولا يمكن التنبؤ الدقيق بانتشارها، وفي أي محور سوف تتمدد، لأن ذلك مرتبطٌ بشكل أساسي بتغير المناخ الذي قد ينقلب بين ساعة وأخرى، وهي، في الوقت ذاته، مشكلة تعاني منها البشرية، لأنها مهما اتخذت من احتياطاتٍ لحمايتها من الاعتداء البشري، وإشعال النار بفعل فاعل، فإنك لن تستطيع حمايتها. وهناك أسباب أخرى طبيعية، كالصواعق مثلاً، أو الماس الكهربائي، كذلك هناك سبب آخر لاشتعال النار فيها، وهذا خارج عن سيطرة الإنسان، فالعواصف النارية غالبًا ما تنشأ من تلقاء نفسها، بسبب وجود كمية كبيرة من النباتات والأشجار سريعة الاشتعال، يؤدي المناخ الحار والجافّ إلى إشعال الجذوة الأولى، ثم تتلقف الأحراج تلك الجذوة الجاهزة لالتقاطها.
في بحث منشور في مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية عام 2004، تفيد الإحصاءات بأن الحرائق مجهولة السبب جاءت في مقدمة الأسباب المسؤولة عن اندلاع الحرائق بين عامي 1981 و1998 في اللاذقية والغاب، وأن هذا ينسجم مع إحصائيات حرائق الغابات في المنطقة المتوسطية، كما تؤكد الأرقام بالنسبة إلى حرائق الغابات الأوروبية المتوسطية. وللتذكير، تشكل غابات اللاذقية والغاب في تلك الإحصائيات ما نسبته 35.61%من المساحة الإجمالية للغابات في سورية عام 1993. يعني قبل اندلاع الحرب بحوالي 18 عامًا. ولكن ما بعد الحرب ليس كما قبله، لقد طاولت النيران خلال السنوات التسع مساحات كبيرة من المناطق الحراجية والغابات، نتيجة العمليات العسكرية، إنْ بتكتيكٍ قتالي أو بتقاطع النيران، أم بسبب المطامع التي استغلت ظروف الحرب، لتمعن في فسادٍ بات متأصّلاً في المجتمع والدولة.
ليست حرائق الغابات وحدها، إنما حرائق المحاصيل التي شهدناها هذا العام في سورية، في السويداء كما في الحسكة والمنطقة الشرقية. وفي العام الماضي، شبت الحرائق في كروم الزيتون في مناطق واسعة من سورية، واتصلت بالحرائق التي اندلعت في لبنان. ويمكن التذكير أيضًا بالحرائق العالمية التي شهدها العامان المنصرمان، غابات الأمازون في العام الماضي التي توصف بأنها رئة الأرض، والحرائق في أستراليا في بداية هذا العام التي نفق بسببها مليار حيوان، ودمّر ما يقارب الثلاثين مليون فدان، عدا الأشخاص الذين ماتوا بسببها. يمكن الحديث مطولاً عن حرائق الغابات في العالم، لكن هذه المقدمة تفرضها اللحظة الراهنة في سورية، حيث تلتهم النيران مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، تصل في بعض منها إلى القرى والبيوت السكنية. ولم تبخل مواقع التواصل الاجتماعي بمدّنا بالصور والفيديوهات لحظة بلحظة، ليس فقط عن النار، وهي تلتهم بجبروتها الرهيب الأخضر قبل اليابس، بل بعض العائلات التي هربت من بيوتها سيرًا على الأقدام، بعد أن تلاحقت نداءات الاستغاثة لمن يملكون سيارات بالتوجّه إلى المناطق المنكوبة من أجل نقل الآهلين، منظر يكرّس الصورة النمطية التي وصمت الإنسان السوري على مدى تسع سنوات، الهروب من الموت والشرود في بقاع الأرض بحثًا عن منفذ يوصل إلى مناطق آمنة، هو جزء من مشهد التغريبة السورية التي تفوق التصوّر.

ليس عبثًا تسمية حرائق الغابات بالعواصف النارية، فهي تشبه الأعاصير، ولا يمكن التنبؤ الدقيق بانتشارها، وفي أي محور سوف تتمدد

وإذا كانت الحرائق مجهولة السبب هي الأكثر شيوعًا، فإن هذه الأسباب المجهولة المعلومة في عرف السوريين عقودا، هي نتيجة للفساد وانعدام المحاسبة، بسبب تورّط عديدين من رجال السلطة في جرائم من هذا النوع. فمن المعروف للسوريين أن هناك حرائق كانت تفتعل سنويًا من أجل وضع اليد على أراضٍ تعتبر من أملاك الدولة ونقلها إلى ملكياتٍ خاصة، والاستفادة قبلها من حطبها وفحمها كسلع رائجة ومطلوبة بمساندة أشخاص متنفذين، لكن هذا لا يعني أن حرائق بهذا الحجم والاتساع والقدرة على التمادي السريع هي بفعل فاعل، كما حاولت بعض وسائل الإعلام إشهاره للرأي العام أنه السبب المؤكّد، والذي يقف خلفه النظام من دون أي دليل يثبت ذلك، وهذا ليس دفاعًا عن أحد، كما صار سابقًا أيضًا من تبادل للاتهامات بشأن حرائق المحاصيل، وكأن هذا الشعب تنقصه أسباب فتنة.

كانت غابات اللاذقية والغاب تشكل في الإحصائيات ما نسبته 35.61%من المساحة الإجمالية للغابات في سورية عام 1993

سورية أمام مشكلة تزداد تعقيدًا واستعصاء على الحل، تلتهم الشعب السوري كضحايا منذ بداية حرب السنوات التسع التي ما زالت قائمة، لكن الأخطر فيها هو حرق النفوس، وتسميم الوعي بدخانها، بتعميق الهوة وترسيخ الشقاق بين مكونات الشعب، مع العلم أن كل تلك المكونات خاسرة، وجميعها خسرت وطنًا، كان من الممكن ترميمه والنهوض به وإعادة إعماره، لولا هذه الصدوع التي ما زالت تزداد عمقًا، الصدوع التي حفرتها السياسة، ورسّختها نخبٌ كثيرة.
إذا كان مقبولاً في السنوات الأولى من الزلزال السوري أن تحتدم المعارك الكلامية، وينقسم الشعب بين مؤيد ومعارض للحراك، وفق نوازع وطنية ينسبها كل طرفٍ إلى نفسه، ويخوّن الطرف الآخر، ويصبح الصراع قائمًا بين من يصرّون على المؤامرة ومن يعارضونها، حتى بعدما صودر حراك الشعب، وتحوّلت سورية إلى ساحة معارك نفوذ، فإنه من المؤسي أن يكون الشقاق قد ازداد، ولم يتحرّك وعي الناس قيد أنملة عن اليقينيات السابقة، على الرغم من انكشاف الأمور وحالة البلاد، وقد أوصلتها الصراعات على النفوذ والسلطة إلى دولة فاشلة ضعيفة، يعاني غالبية شعبها الجوع والفقر والتشرّد. بعد سنوات الجحيم، ما زال السوريون يشمتون ببعضهم بعضا أمام الكوارث التي تصيبهم، ولا تفرّق بين موالاة ومعارضة. ودائمًا هناك منصّات التواصل الاجتماعي التي تعطي الصورة الواقعية عن نبض الشارع ووعي الناس، فأمام الحرائق، تظهر الثأرية في تعليقات الناس، كأن يتمنى بعضهم لمناطق الموالاة أبشع انتقام بأن يموتوا حرقًا، معتبرين أنهم جميعًا ناصروا النظام، وساهموا في قتل السوريين المعارضين وتشريدهم. ويظهر اليأس، ومن قبل اليأس أيضًا تُلقى أسئلة على عواهنها، أو في معرض السخرية اليائسة والمرّة، لكنها أسئلة في العمق. كتب أحدهم: لك وين الطيارات يلي كانت تقصف؟ حُطّوا بدل البراميل مي وطفّوا النار. وكتب آخر: الباصات الخضر وين، بطّلوا يكونوا جاهزين ينقلوا العالم؟ وقال آخر متهكّما: ليش سوريا مو الله حاميها؟ شو دخل الدولة والحكومة؟
لو يعرف السوريون أن تلك الغابات، "رئاتهم المحروقة"، ستتحول حطبًا لتدفئة أجساد حيتان المال الذين أتخمتهم الحرب، وكذا الاتجار بقوت الناس ودمائهم، وإلى فحم توقد به مناقل الشواء لتعمّر موائد النهمين التي لا تمرّ بقربها أزمة الرغيف، أو أزمة الدواء، أو حتى شبح كورونا، فمقابل صور الحرائق وصور الناس المحتشدة المتدافعة أمام الأفران، والتي صار ازدحامها يسجّل جرائم قتلٍ سببها غريزة البقاء بالدرجة الأولى، تنشر صور وفيديوهات لمنشآت حديثة ومحلات تجارية ومطاعم ومنتجعات، وحتى حفلات أعراس أسطورية، في وقتٍ صار فيه حوالي تسعين بالمائة من الشعب تحت خط الفقر والجوع، فلمن تتوجّه هذه المنشآت التي لا يقدّم أي منها ما يدعم الاقتصاد ويخفّف الأزمات المعيشية؟ وهل يعيش هؤلاء في كوكب آخر، لا تصل إليه أصوات الحرب، ولا فرقعة الأشجار وهي تئن محترقة، ولا تلفحها حرارة النيران، ولا يخنقها الدخان الأسود؟

طاولت النيران خلال تسع سنوات مساحات كبيرة من الغابات، نتيجة العمليات العسكرية، إنْ بتكتيكٍ قتالي أو بتقاطع النيران، أم بسبب المطامع التي استغلت ظروف الحرب

سورية التي تعيش اليوم في عزلة ضمن دائرة موتها، لم يغثها لا القريب ولا البعيد، بينما هبّ العالم مجتمعًا لإطفاء حرائق الأمازون، وحرائق أستراليا، وغيرها في غير بقعة من الأرض. سورية اليوم مخنوقة بالحرب والعقوبات الأوروبية وقانون قيصر والحرائق والحدود البينية والخارجية، وحدها الحرب تعمل أدواتها في الحفر والهدم والحرق وتشتيت الشعب، ولا من صديق، لا لشعبٍ ولا لنظام، والدليل الأزمات المعيشية الخانقة والحرائق التي لم تدعم أي دولة في إطفائها. ومن صادروا كفة التوجه والحراك السياسي يخمّرون الزمن، بانتظار عجينهم أن ينضج، وهم في الحقيقة يخبزون الشعب في أفران شهوتهم للسلطة ومنافعهم الشخصية، والقيام بالأدوار الموكلة إليهم في هذا الصراع الشائك الحارق، حتى الدستور المزعوم لم يتفقوا عليه، على الرغم من أنهم سيلبسونه إلى شعبٍ لم يُسأل رأيه، لا قبل ولا بعد. إنها جهنم سورية التي أكلت منذ عقود الأخضر قبل اليابس، وحرقت وعي الناس ونفوسهم وأرواحهم.