لماذا لم يتصرف الجيش اللبناني ويجد حلا لمشكلة نترات الأمونيوم المخزنة في مرفأ بيروت؟ وما سبب عدم بيع الكمية الكبيرة التي وصلت إلى مرفأ بيروت منذ عام 2013؟ وهل كان مقترح البيع للشركة اللبنانية للمتفجرات حقيقيا ويمكن البناء عليه؟ وكيف يمكن تحديد مسؤولية القضاء؟ وما هي حقيقة انفجار كامل الكمية المخزنة (2750 طن)؟.
أسئلة عديدة يجيب عنها ثاني تحقيقات "العربي الجديد" في الانفجار الذي راح ضحيته 171 قتيلا، فضلا على 6 آلاف جريح، بينما يوجد 40 مفقودا ونحو 1500 جريح يحتاجون إلى "علاجات دقيقة خاصة"، من بينهم 120 جريحا لا يزالون في العناية المركزة، وفق أحدث تصريحات الدكتور حمد حسن، وزير الصحة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، مساء الـ11 من أغسطس/ آب 2020.
كيف علم الجيش بوجود نترات الأمونيوم ؟
"الجيش عرف بقضية نترات الأمونيوم في عام 2015 بطريقة مخابراتية، إذ لم تقم أي من الجهات المعنية بإطلاعه على القضية"، هكذا أكد لـ"العربي الجديد" مصدر مطلع في الجيش اللبناني، موضحا، بينما يقرأ أوراق القضية، أن :"الجيش ليس ضابطة عدلية ولا يوجد له ضابطة عدلية في المرفأ ولا صلاحيات له بالمراجعة"، ويتساءل: "إن كانت مديرية الجمارك وجدت في بيع هذه الأطنان أو تصديرها صعوبة ما، فلماذا لم تعرض الموضوع في مجلس الوزراء عبر وزير المالية وتدق ناقوس الخطر الموقوت في مرفأ بيروت، وهي التي يمنحها القانون هذا الحق؟".
وسبق أن حذر الجيش من خطورة نترات الأمونيوم المخزنة في الميناء، وكانت له مراسلات مع الجهات المعنية حول الأمر، واقترح حلولا، بعد أن اكتشف الأمر في نهاية عام 2015، وساعد بأخذ عينات منها لصالح مركز البحوث الصناعية، وقدم تقريره للجهات المختصة، مديرية الجمارك، ووزراة الأشغال بتاريخ 29 يناير 2016، وهو التقرير الذي أشار إلى أن نسبة تركيز الآزوت في هذه الأطنان مرتفعة وتتجاوز النسبة المسموح بها دولياً وتبلغ (34,7)، وبالتالي يشكل وجودها خطورة كبيرة، وأنها كانت موضّبة بـ159 كيساً بعضها ممزق ومخزن بطريقة غير سليمة.
وأرسل الجيش اللبناني كتاباً آخر بتاريخ 29 مارس 2016، أبلغ فيه الجهة المختصة (مديرية الجمارك) "أن الجيش ليس بحاجة للمادة المذكورة كون كميتها كبيرة جداً واستعمالها محدودا، وهي تتحلل مع مرور الزمن، ما يشكل خطورة في خزنها لمدة طويلة، بالإضافة إلى أنه لا تتوافر أمكنة شاغرة لخزنها وليست لدينا القدرة على إتلافها أو التخلص منها"، وجاء الكتاب على ذكر الشركة اللبنانية للمتفجرات لإمكانية الاستفادة منها في شراء هذه الكميات، أو إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها، كون لا مصلحة للجيش بشرائها ولا إمكانية تقنية حتى لتخزينها.
لماذا لم تشتري الشركة اللبنانية للمتفجرات الشحنة؟
الشركة اللبنانية للمتفجّرات ش.م.م، لصاحبها مجيد شماس وشركائه (تأسست عام 1973 في الكورة شمالي لبنان، كأول شركة تعمل في مجال صناعة المتفجرات للاستخدامات المدنية في الجمهورية اللبنانية، ولا تزال هي الشركة الوحيدة التي تعمل في هذا المجال)، ورد اسمها في المراسلات بين مديرية الجمارك والجيش اللبناني وقضاء العجلة في إطار التوصية لشراء أطنان الأمونيوم. وتشير المعلومات إلى أن صاحبها خضع للتحقيق خلال المرحلة الماضية، وتؤكد مصادر في شركة الشماس لـ"العربي الجديد" أن الشركة لم تكن يوماً مهتمة بشراء المواد المصادرة، "فنحن لدينا مصادرنا الموثوقة وتراخيص الاستيراد الصادرة من خلال الآليات الحكومية وهذا مبدأ ثابت لدى الشركة"، ما يؤكد عدم تقدم شركة الشماس بأي عرض لشراء أطنان الأمونيوم، بل سمع أصحابها بذلك في الإعلام عند كشف المراسلات، علماً أن هذه الكميات تصفها مصادر الشركة بأنها خارج قدرتها وتفوق حاجتها ويحتاج استهلاكها في السوق المحلي لأكثر من 20 سنة.
الجيش حذر من أن نسبة تركيز الآزوت في هذه الأطنان مرتفعة وتتجاوز النسبة المسموح بها دولياً وتبلغ (34,7)
بالعودة للمراسلات، والتي لجأ إليها كل من مدير عام الجمارك بدري ضاهر ومدير عام مرفأ بيروت حسن قريطم (وهما اليوم قيد التوقيف والتحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت) كورقة غسل يدين من المسؤولية، إذ صرّح ضاهر عبر وسائل إعلام محلية بتوجيه أكثر من 6 كتب للقضاء سابقاً بأن "المواد الموجودة في المرفأ تشكل خطراً على المرفأ وعلى الجميع، وطالب بإعادة تصديرها وهذا الأمر لم يحصل"، وأشار قريطم في وقت سابق أيضاً إلى "تعيين حارس قضائي على هذه المواد ووضعها في عنبر منفرد، حيث بقيت لمدة 6 سنوات من دون أن يكون لإدارة واستثمار مرفأ بيروت الحق في التصرف بها".
تمهّد هذه المراسلات لتوجيه أصابع الاتهام إلى القضاء اللبناني، وتحديداً قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف (القاضي الناظر بقضية الباخرة روسو التي أبحرت في 23 سبتمبر/أيلول 2013 من ميناء باتومي في جورجيا، متوجهة إلى موزمبيق، وفقاً لموقع Shiparrested.com المتخصص بالملاحة وشؤونها القانونية، وتوقفت بسبب أعطال فنية في مرفأ بيروت في نوفمبر 2013) أي في فترة شغور حكومي قارب 11 شهراً، سبق تشكيل حكومة تمام سلام في 15 فبراير 2014.
كيف يمكن تحديد مسؤولية القضاء؟
مما سبق، هل فعلاً القضاء متورط بكارثة 4 آب؟ مصدر قضائي، مقرّب من القاضي معلوف، يؤكد أن قاضي العجلة هو قاضٍ مدني وليس قاضياً عسكرياً وليست من اختصاصه المواد المتفجرة، وكل ما حصل أن هيئة القضايا التي هي الجهة المستدعية، أي الدولة اللبنانية، طلبت من القاضي معلوف تعويم الباخرة التي كانت معرضة لخطر الغرق بسبب أعطال فنية، بحسب الطلب، وتم الترخيص يومها للوزارة الوصية على المرفأ (وزارة الأشغال العامة والنقل) بتعويم الباخرة وتخزين الحمولة في المكان المناسب الذي تحدده الوزارة، ولم يحدد القضاء يومها مكان التخزين.
وعن المراسلات العديدة التي وُجهت إلى القاضي معلوف، يؤكد المصدر في حديثه لـ"العربي الجديد" أن هذه المراسلات كان يردّها القاضي معلوف في كل مرة إلى مرسليها، كونها تأتي من جهة غير ذات صفة بالملف وبطريقة غير قانونية، ويعيد إحالتها إلى الجهة المعنية لتطلع عليها وكان يطالبها بأخذ المقتضى المناسب في كل مرة.
ويكشف أن الشحنة لم تكن محجوزة أصلاً من قبل قضاء العجلة "ولا صلاحية لقضاء العجلة بحجزها، وهو لا يفصل ولا يبت بالحقوق والملكيات، بل يتخذ تدابير مستعجلة من دون التعرض لأصل الحق وفقاً للقانون". وأن القاضي معلوف تشكل إلى محكمة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ولهذا التاريخ لم يرد إليه من هيئة القضايا (وزارة الاشغال) حسب الأصول طلب ببيع البضاعة بل مراسلات "خارجة عن إطارها القانوني ومُستغربة"، وهي "الإجراءات المكتوبة والمحفوظة وبعهدة القضاء اليوم".
مرجع قضائي (رئيس سابق لإحدى هيئات الرقابة القضائية اللبنانية) يوضح أن هناك لغطا كبيرا حول دور القضاء في هذه العملية، وعظمة الكارثة دفعت البعض لحرف المسؤوليات، "علماً أنه من بعد مرور 6 أشهر من دون أن يسأل أصحاب الشحنة عنها، يحق للجهة المسؤولة، وزارة الاشغال أو مديرية الجمارك، بيع هذه المواد في مزاد علني ومن دون أي تصريح من أحد".
ويحمّل المرجع القضائي هنا وزراء الأشغال المتعاقبين خلال هذه الفترة مسؤولية ما حصل، كونها هي المسؤولة عن كل هذا التخزين الخاطئ في مرفأ مدني. ويرجّح أن ما قيل عن أعطال فنية بالباخرة هي ادعاءات لتبرير رسوّ الباخرة في مرفأ بيروت، ولعل ما يزيد الشبهات برأي المرجع هو نفي الشركة التي تنتمي إلى دولة موزمبيق علاقتها بالشحنة وعودتها عن ذلك في فترة يومين فقط "كأن الشحنة مُعدة لتصل إلى لبنان، من دون أن يُعرف أنها ستستقر بمرفأ بيروت، ولذلك كان العقد من جورجيا إلى موزمبيق ولم يأت على ذكر لبنان".
الوزير الوصيّ
ما ذهب إليه المرجع القضائي من تحميل وزارء الأشغال المسؤولية، سأل العربي الجديد عنه وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني يوسف فنيانوس (تولى مهام الوزارة بين 2016 و2019)، والذي يؤكد في اتصال مع "العربي الجديد" إن وزراء الأشغال الذين تعاقبوا على الوزارة من 2014 حتى اليوم (وهم غازي زعيتر في حكومة تمام سلام 2014-2016، وميشال نجار في الحكومة الأخيرة حكومة حسان دياب، التي تشكلت في 21/1/2020 واستقالت في 7/8/2020، ويتوسطهم فنيانوس في حكومة سعد الحريري الثانية 2016-2019)، مطلوبون للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت. رافضاً سرد رواية وزارة الأشغال والمراسلات الصادرة أو الواردة إليها في هذا الإطار "احترماً لسرية التحقيق وضحايا الانفجار"، ويضيف متحملاً مسؤولياته: "إن كنا ارتكبنا خطأ عن قصد أو عن غير قصد أثناء تولي عملي في وزارة الأشغال، يجب أن نتحمل المسؤولية، وأنا تحت القانون وجاهز للمساءلة والمحاسبة ولست أغلى من الذين راحوا" .
رفع العتب
مرجع أمني لبناني (وزير داخلية سابق) يرى أن "الإهمال" كان السبب الرئيسي في عدم إتلاف أو بيع أطنان الأمونيوم التي تسببت بكارثة 4 آب، ويصف المراسلات بين الأجهزة المسؤولة عن أمن وإدارة المرفأ بـ"مراسلات رفع العتب" أو "غسل اليدين من المسؤولية". ويؤكد لـ"العربي الجديد" إن "الإهمال كبير جداً، ولكن لا يمكننا أن ننكر أيضاً صعوبة بيع هكذا مواد لعدم وجود شركات لشراء الشحنة لخطورتها، علماً أن بيعها بالمزاد العلني يحتاج لوجود شركتين ترغبان بشرائها كحد أدنى، وهذا ما لم يكن متوفراً". ويشير إلى أن اللجنة المتخصصة، التي تقوم بالتحقيقات بمساعدة خبراء فرنسيين وبريطانيين، توصلت إلى تحديد المسؤوليات والمتهمين الأوليين، والبحث مستمر حول كيف حصل الانفجار.
وبينما تستمر بيروت المنكوبة بلملة جراحها، تحصي الضحية تلو الأخرى، في ظل تهجير أكثر من 200 ألف عائلة (بحسب محافظ بيروت مروان عبود)، بالتزامن مع استمرار التحقيقات لكشف أسباب انفجار 4 أغسطس/آب، وتحديد المسؤولين عن ترك 2750 طناً من المواد المتفجرة الخطرة لفترة تقارب 7 سنوات في مرفأ مدني يتوسط العاصمة، وسط تقاذف لكرة المسؤولية بين المعنيين.
القاضي معلوف في كل مرة يعاد المكاتبات إلى مرسليها كونها تأتي من جهة غير ذات صفة بالملف وبطريقة غير قانونية، ويعيد إحالتها إلى الجهة المعنية لتطلع عليها وكان يطالبها بأخذ المقتضى المناسب في كل مرة
حجم الكمية المنفجرة
ما بين البيع والشراء، هناك نظرية تفرض نفسها في رحلة الموت البيروتية الموقعة بنترات الأمونيوم العابرة للحدود، ويكاد يجمع الخبراء على أن الكمية التي تم الحديث عنها، 2750 طناً، كفيلة بتدمير كامل بيروت ومحيطها، وبالتالي يشكون في حقيقة الكميات التي انفجرت.
يؤكد مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات (مركز بحثي يهتم بالمجالات الأمنية والاستراتيجية) العميد خالد حمادة أن الكمية التي انفجرت هي أقل من 2700 طن أمونيوم، ويرجّح نظرية "سرقة أو تهريب أو بيع بعض الأطنان بطريقة غير شرعية"، كون المرفأ "مستباحا"، ومرتبطا بمعارك وصراعات، ويضيف: "ليس من المعقول أن هذه المواد لم تستعمل على مدى أكثر من سنوات ولم يسأل عنها صاحبها". ويؤكد أن الأجوبة العلمية تنتظر التحقيقات، ولا بد أن المعايير العلمية ستبين كمية المواد التي انفجرت بشكل دقيق.
ويتفق مدير عام الإستشارية للدراسات الاستراتيجية (مركز بحثي) الدكتور عماد رزق في حديثه لـ"العربي الجديد" مع الرأي السابق، جازما أن الكمية التي انفجرت من الأمونيوم هي أقل بكثير من 2750 طنا، إذا ما قارنا انفجار بيروت (الذي أحدث حفرة بعمق 43 متراً) مع انفجار الصين في 2015، الذي يبدو حسب الصور وعدد الضحايا وعدد المباني المدمرة شبيهاً بانفجار 4 آب (دمر 300 مبنى وقتل 165 وعشرات المفقودين، وتمت فيه محاكمة 123 شخصاً لمسؤوليتهم، بينهم 10 رسميين) وهو الذي كان بسبب انفجار 800 طن فقط من الأمونيوم "ما يعني أننا نتحدث في انفجار بيروت عمّا يوازي هذه الكمية أو أقل".
لكن أين ذهبت باقي الأطنان؟ يجيب رزق هنا: إما هي لم تنفجر جميعها وهذا يعني أنها بقيت بمسرح الجريمة، وهذا يمكن تحديده في التحقيقات إذا ما تبين وجود تطاير لنترات أمونيوم غير متفاعلة في المحيط، وإما كان يتم بيعها أو تهريبها عبر ثغرات في المرفأ وهذا ما يجب أن تبينه كاميرات المراقبة في المرفأ على مدى السنوات الماضية أيضاً.
ويؤكد أن قوة العصف لكمية أمونيوم تساوي 2750 طنا، تعرضت لصاعق، تضاعف من قوتها التدميرية إلى 4 مرات، أي تصل إلى 115 كلم (مُدمّر) ما يؤكد أن ما انفجر هو كمية محددة من الأمونيوم.
ويستبعد رزق نظرية تفاعل الأمونيوم مع مخزن ذخيرة أو مفرقعات نارية، لأننا لم نرَ تتطايرا للصواريخ أو للمفرقعات في مسرح الجريمة، بل ما رأينا فقفقة تؤشر على تفاعل كيماوي بين الأمونيوم وصاعق غير معروف مصدره بعد (عبوة أو تفاعل لمادة سريعة الاشتعال مع صاعق نار أو قصف جوي)، قائلا :"نتذكر حالة سفينة لطف الله 2 التي جاءت إلى لبنان في الـ2012 على أنها تحمل كونتنرات زيوت من ليبيا عبر شركة وهمية (كانت لها عملية واحدة هي إطلاق هذه السفينة) واكتشف جهاز مخابرات الجيش اللبناني في مرفأ طرابلس أنها تحمل في صناديقها المزدوجة صواريخ آر بي جي وصواريخ غراد ومضادة طائرات، وكانت متجهة إلى سورية، ولا يستبعد رزق فرضية عدم توجه الباخرة فعلياً إلى موزمبيق، مشيرا إلى ما يسمى بـ"سفن السلاح العائم"، التي تتسم بكونها قديمة وليست حديثة أي ذات قيمة مادية غير كبيرة، (روسو يعود تاريخ تصنيعها مثلاً للعام 1986)، ويتم بيعها وهي في عرض البحر للمناطق التي تشهد صراعات قبل أن تصل إلى الوجهة المفترضة، بعد إطلاقها عبر شركات وهمية.
بينما لا يشكك الخبير الجيولوجي البروفيسور ويلسون رزق بالكمية التي انفجرت، لكنه يؤكد أن 80% من قوة الانفجار ذهبت في البحر، ويصف ذلك "بتدخل العناية الإلهية، وإلا كانت انمحت بيروت"، ويشدد على أن نترات الأمونيوم تحتاج إلى صاعق لتنفجر، ما يرجح نظرية الفعل المدبّر، الذي تسبب بتقديره بإحداث هزة أرضية.