باب السفر

09 يونيو 2015
لوحة للفنان العراقي حنوش.
+ الخط -
حلمٌ في حلم، كلّما تحين الفرصة أجمع أغراضي خلال دقائق وأرحل نحو المكان الآخر، لأجدني فوق جغرافية أخرى وألوان جديدة وأشكال وأحوال مختلفة. لا همّ إن كان يبعد كيلومترات قليلة عن مستقرّي، أو أن بلوغه يستغرق وقتًا طويلاً. ما أعوّل عليه هو أني أشّد الرحال، وأطير إلى اكتشاف المجهول من دون حسابات أو خرائط. يكفي أن تلوح الفرصة حتى أشدّ عليها وأمسكها كما لو أنها حبات رمل ذهبي.
كلّما طرقت هذا الباب، تناهى إلي صوت آت من بعيد يناديني بالرحيل، نداء مجهول محمول على دهشة المغامرة والفتنة والشهية القوية، فأراني أركض بقدمين رشيقتين نحو هذه الدعوة غير مكترث بالتبعات التي يمكن أن تنطوي عليها المحاولة. فبإمكاني أن أقطع الرحلة من باريس إلى أي بقعة من العالم من دون مشقة، طالما أني أسير وراء مجهول. كان في وسعي أن أخطط للرحيل إلى كوكب آخر، كما لو أني أفكر بالذهاب إلى المقهى المجاور لمنزلي لاحتساء شراب مسائي والثرثرة مع غرباء يشبهونني.
هكذا كان الأمر دائمًا، منذ أن كنت صغيرًا في بادية الشام، حتى السراب الصحراوي كان يوحي بالرحيل بعيدًا. لم أكن أرى أي مشقة في ارتياد السفر، بل ما زلت أعدّه علامة من علامات القوّة والحيوية وليس الحماسة الزائدة. وأكثر من ذلك، لقد عنى لي الإنسان المسافر كشّاف آفاق ورسّام خرائط ومبدع جغرافيات إنسانية.
لا زلت أقفز إلى الطائرة كحيوان الكنغر، غير آبِهٍ بالزمن. فبمجرد أن تحلّق الطائرة في الأجواء تصبح الأمور عادية، كلّ شيء يصير على ما يرام ، وتغدو المسافات مثل سحاب عابر، وتهون الأهوال في سبيل الرحلة. طالما أني أحلق بعيدًا فاللحظة هي الأقوى، وهي الجديرة بالاعتبار. فأنا لم أخرج من بيتي في اتجاه مصحة ذات طريق معبدة، أعلم سلفًا أن هناك احتمال عدم الوصول إلى نهاية الطريق. ومهما كان ضئيلًا فهو مطروح. ولكن ما الذي يهم إذا كنت ذاهبًا نحو مجهول، لا أدري ما الذي يخبئ لي من مفاجآت؟
رغم كثرة الأسفار لم أحاول أن أفلسف السفر أو أن أعي نفسي كمسافر، أترك الأمر يسير لوحده. وعليه، لم أعد من رحلة مخذولًا طالما أني كنت أتجولُ في أماكن أخرى غير التي صرت أعهدها، وألتقي بفضاءات مختلفة لم أَرَهَا من قبل، كنت دائما أرى بعينين أخريين ما يمر أمامي، وكانت تلك المشاهدات تتحوّل تلقائياً إلى شريط داخلي يدور دائمًا، كلّما خرجت من منزلي نحو العالم.
ظهرت موهبتي في السفر مبكرة جدًا، حصل الأمر بين عشية وضحاها، فوجدتني أرْكبُ الفرس لأكتشف ما وراء التلال. حثثتها لتسير بأقصى سرعة، وكانت تجري بشدّة وعرقها يسيل من على ظهرها، لم أشعُرْ أني قطعت مسافة طويلة حتى حلّ المساء، فوجدتني لا أعرف طريق العودة. بقيت محتارًا لأكثر من ساعة، تركت خلالها الفرس ترتاح، بينما كنت أراقب النجوم وحركة الريح، فقررت أن أحثّ الفرس للعودة في الاتجاه المعاكس، فجرت بأسرع مما كانت عليه، ثم وقفت فجأة فعرفت أنها أضاعت الطريق. نزلت عن ظهرها نظرت في عينيها لم تكن منزعجة ولا حزينة.
سفري الأوّل، من الصحراء نحو البحر في بيروت وكان عمري 15 سنة، حين وصلنا من طريق الشام إلى برمانا في حزيران، أشرفت من هناك على زرقة من تلك التي نراها في الخيال. كان البحر صافيًا تسترة غلالة خفيفة من الرطوبة. ظننته للوهلة الأولى سرابًا كالذي اعتدناه في البادية، لكن الفارق هو أن السراب يبتعد كلّما نقترب منه، بينما ظلّ البحر يقترب وتتحوّل زرقته إلى حضور يحتل العين، ولا يكدر صفاءها.
أدهشني البحر، وجدته بلا حدود، كما لو أنه الطرف الآخر من البادية بلون ومحتوى مختلف. وهو ما يفسّر ارتياد أبناء الصحراء للبحار، وتفننهم في صناعة السفن ورسم الخرائط.
دهشة السفر الثانية كانت باريس، لم أحِسَّ بطول الطريق من المطار نحو الحي اللاتيني، حيث نزلنا في فندق تديره نهارًا امرأة بمواصفات سيدة بيروتية، أيام كانت بيروت مفتوحة وتعيش على هواها، وفي الليل يتولى شؤونه شاب تونسي. رمينا أغراضَنا في الغرفة وسرنا في ليل باريس، وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، لا أزال أتذكّر ذلك الطعم الخاص لتلك الليلة، مذاقها ورائحة خطواتي الأولى. في كثير من الأحيان حين أكون على قدر من الاحتدام الداخلي، أعود إلى شوارعي الأولى، وأنزل من جهة جامعة السوربون، مستعيدًا نزولي الأوّل في ليل المدينة، لكي أستعيد لحظة علاقتي بهذا المكان الذي كوّنني من جديد.
المساهمون