01 نوفمبر 2024
بيوغرافيا الحكومة التونسية المشكّلة
قد يصعب على المتخصص في الشأن السياسي التونسي كتابة بيوغرافيا موحّدة، تناسب الحكومة التونسية التي أعلن تشكيلها يوسف الشاهد يوم السبت الماضي (20 أغسطس/آب)، أو وضع مصفوفةٍ دقيقةٍ لها تحدّد هويتها الأيديولوجية وكينونتها السياسية، بسبب فسيفسائيتها وتشعب منمنماتها، وتنوع مراكز قواها، وخروجها عن المألوف السياسي الذي تفرزه النتائج الانتخابية، ما جعلها محلّ انتقادٍ شديدٍ وتشكيكٍ في مصداقيتها، حتى قبل نيلها ثقة البرلمان التونسي، ومباشرة مهامها على أرض الواقع.
إذ سيؤوي قصر الحكومة في القصبة شتات التيارات الأيديولوجية التقليدية، ووافدين على عالم السياسة التونسية، من إسلاميين، وماركسيين، وعروبيين، ودستوريين بورقيبين أو تجمعيين، وليبراليين، ونقابيين، وحقوقيين، وتكنوقراط غربيي التكوين، وآخرين غير معلومين، منهم مطبّعون، في تشكيلةٍ حكوميةٍ موحدة، شبيهةٍ بسفينة نوح التي تحمل من كل زوجين اثنين، في محاكاة لحكومة الترويكا سنة 2013، أو للحكومة الرباعية لسنة 2015، ولكن أوسع عدداً وأشمل نطاقاً.
هي حكومة مشكّلة، في ظاهرها، وفق مبادرة رئيس الجمهورية، كحكومة وحدة وطنية، لكن حقيقتها أقرب إلى المحاصصة الحزبية والترضيات الغنائمية للوبيات السياسة والمال والمصالح الأجنبية وقوى النظام القديم وحاخامات الحكم التقليديين ونزواتهم الجهوية ورغباتهم الهيمنية، حتى وإن ضمت بعض الكفاءات الوطنية، أو زُيّنت ببعض ألوان الأفكار السياسية.
وإذا ما استثنينا وثيقة قرطاج التي وقعتها أبرز الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية في تونس، وتعدّ بمثابة إعلان نياتٍ أولية حول جملة من القضايا الكبرى، المتفق على أولويتها وإلحاحها، وضرورة التسريع بحلّها، وفي هرمها مقاومة الإرهاب والفساد، وإرساء منظومة للحكامة، وحلّ مشكل البطالة، فإن الحكومة التونسية الجديدة لم تبُح بعد بأي سرّ من أسرارها، بما في ذلك سرّ مبرّرات وجودها، وانبعاثها على أنقاض حكومة الحبيب الصيد، محافظة على جزء كبير من وزرائها، أو تعلن عن خطّةٍ من خططها، في كيفية إنقاذ البلاد من الأزمة البنيوية التي تردّت فيها، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وأمنياً، وسبيلها إلى صيانة السيادة الوطنية في ظلّ التدخل السافر في الشأن الداخلي الذي تمارسه بعض البعثات الديبلوماسية والسفارات والقنصليات الأجنبية، والمنظمات الدولية، وخصوصاً المالية، أو الوعد، مجرّد الوعد، بكشف المجرمين الذين اغتالوا الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد، وهو المطلب الشعبي والنخبوي الذي لا اختلاف حوله.
وتعدّ ولادة هذه الحكومة عسيرةً، مقارنةً بغيرها من الحكومات السابقة، وانطلاقتها صعبة
ومتعثّرة، وصورتها تبدو مهشّمة، فاقدةً الثقة الشعبية، حتى وإن نالت ثقة أغلبية مجلس نواب الشعب يوم الجمعة (26 أغسطس)، فتلك الثقة لن تعكس، بأي حال، رضاء الرأي العام الشعبي الذي استعمل كل وسائل التعبير المتاحة لديه، لا سيما الافتراضية منها، للهجوم على وزرائها، ونشر ملفات شبهات فسادٍ تعلّقت ببعضهم، والتهكّم على آخرين، بدوا له طفيليين في المناصب التي نالوها، أو نزّاعين نحو الكراسي، مقارنةً بحجم معارفهم المحدودة أو شهاداتهم العلمية التي لا تؤهلهم، حتى لمجرّد تولي خطط إدارية دنيا في سلم الإدارة التونسية. ولم ينج من تلك الحملات الواسعة، رئيسها، الذي أُشير إلى قرابته الحقيقية، أو الوهمية، مع رئيس الجمهورية الذي طالما كلّفه بمهام بلاطيةٍ في الحزب أو الدولة، وإلى وظيفةٍ في السفارة الأميركية، وترويجه الاستراتيجية الزراعية للولايات المتحدة الأميركية، القائمة على التعديل الجيني، في المجال الزراعي، بما يخدم الخطّة الأميركية، الهادفة إلى الهيمنة على قطاعاتٍ حيويةٍ في الأغذية والزراعة على المستوى العالمي، فالرجل يسوّق، في سوق السياسة المحليّة والعالمية، خبرة دولية، حاصل على شهادة الدكتوراه الموحدة في العلوم الزراعية من جامعة فرنسية.
ولم تخل طريقة تشكيل الحكومة من الوهم والعبثية، فقد تشابهت اللحظات التاريخية على مشكّليها ما بين 1956 واليوم، فهرولوا إلى إشراك الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف، ناسين أو حتى جاهلين بمنطق التاريخ وحتميته التي لا تعرف التكرار، فالمنظمات النقابية للعمال والأعراف، المتناقضة المصالح، يمكن أن تكون سنداً للحكومة، إذا هي استجابت لمطالبها القطاعية المتنامية المثقلة للموازنات المالية للدولة، أما من دون ذلك فهي قوى احتجاج بامتياز، بالنسبة للفئات العمالية، وهي مجموعات ضغط محترفة لتوفير الامتيازات والتسهيلات، وسن التشريعات على المقاس، والاستيلاء على الثروات الوطنية باسم الاستثمار وبعث المشاريع بالنسبة للأعراف، وإن إشراك هذه المنظمات في الحكم، مباشرة أو بصفة غير مباشرة، لن يحدّ من نزعتها المطلبية الخارجة حتى عن سيطرة القيادات النقابية، ولن يعوّض الشركات المتعثرة، أو المفلسة، عن صعوباتها وإفلاسها وحاجتها إلى رأس المال والأرباح التي يجب أن تتوفر، بكل الطرق الممكنة المشروعة والممنوعة في مدوّنة أهل المال والأعمال.
وتعاني الأحزاب السياسية المشاركة في حكومة الشاهد، في غالبها، من ضعف المصداقية لدى عامة الناس، فهي التي شكّلت حكومة الحبيب الصيد المنبثقة عن انتخابات 2014، التي استمرّت سنة ونصف السنة في الحكم، مقرّة بفشلها التام، ما انجرّ عنه سحب الثقة منها بالأغلبية نفسها التي زكّتها، وذلك في أثناء الجلسة البرلمانية المشهودة والصاخبة يوم 30 يوليو/ تموز 2016 التي عرفت انحداراً قيمياً لافتاً في أنطولوجيا السياسة التونسية، وهذه الأحزاب، في واقع الحال، تقرّ ضمنيا بفشلها، وتسحب الثقة عن نفسها، معتقدةً أن الفشل كان من نصيب رئيس الحكومة فقط، وليس عنواناً لوزرائها وخياراتهم الحزبية ورؤاهم السياسية.
ولا تتمتع الأحزاب الأخرى القليلة، الملتحقة حديثاً بالحكومة، بأي صدقيةٍ، فبعضها خيّر التحاق نوابه بكتلة حزب نداء تونس الحاكم، في عمليةٍ تذوب فيها الأنا، بطريقةٍ لا نجدها إلا في
المجتمعات القبلية، أو الكيانات الطائفية، وكان بعضها الآخر رائداً في إعلان الحرب على الإسلام السياسي، مستفرداً حركة النهضة بكراهيةٍ خاصة، داعيا إلى التخلص منها، ومن زعمائها، مادياً ورمزياً، متهما إياها بالإرهاب، والقتل الذي طاول زعيمين حزبيين، محرّضا الناس ضدها خمس سنوات متتالية، فإذا به ينتصب حليفاً مبجّلاً لها في حكومةٍ ائتلافية، في عملية دوس وانقلاب عن الذات الحزبية، وأنصارها، ومبادئها المزعومة، ووعودها الانتخابية الكاذبة التي أقرّت عدم التحالف مع الإسلاميين، في أي ظرف وتحت أي مسوّغ كان.
ترسل الطبيعة الفسيفسائية للحكومة الجديدة، من داخلها، ألواناً مختلفة، تسرّ بعض الناظرين، تعكس التعدّد الحزبي، والتنوع الأيديولوجي وتعدّد المشارب والمصالح، لكنها تخفي مرجعياتٍ وأنماط تفكير وولاءات مختلفة، وذوات سياسية وحزبية منتفخة، ستعسّر على رئيس الحكومة الجديد مهامه في إدارة أعمال حكومته، ومدى قدرتها على الالتزام بمبدأ التضامن الحكومي، وستجعل من التعايش السياسي ووحدة الرؤى عمليةً صعبة، خصوصاً لما يتعلق الأمر بسياساتٍ موجعةٍ وباختيارات اقتصادية مملاةٍ، لها علاقة بقطاعات استراتيجية، تلامس حياة الفئات الشعبية الواسعة والهشّة، وتؤثّر فيها، فالأمر يتعلق، هذه المرّة، باختبارٍ حقيقي لمدى وطنية هذه الحكومة، وفسيفسائها الحزبية، وشخصياتها المدنية والوطنية، من عدمه.
إذ سيؤوي قصر الحكومة في القصبة شتات التيارات الأيديولوجية التقليدية، ووافدين على عالم السياسة التونسية، من إسلاميين، وماركسيين، وعروبيين، ودستوريين بورقيبين أو تجمعيين، وليبراليين، ونقابيين، وحقوقيين، وتكنوقراط غربيي التكوين، وآخرين غير معلومين، منهم مطبّعون، في تشكيلةٍ حكوميةٍ موحدة، شبيهةٍ بسفينة نوح التي تحمل من كل زوجين اثنين، في محاكاة لحكومة الترويكا سنة 2013، أو للحكومة الرباعية لسنة 2015، ولكن أوسع عدداً وأشمل نطاقاً.
هي حكومة مشكّلة، في ظاهرها، وفق مبادرة رئيس الجمهورية، كحكومة وحدة وطنية، لكن حقيقتها أقرب إلى المحاصصة الحزبية والترضيات الغنائمية للوبيات السياسة والمال والمصالح الأجنبية وقوى النظام القديم وحاخامات الحكم التقليديين ونزواتهم الجهوية ورغباتهم الهيمنية، حتى وإن ضمت بعض الكفاءات الوطنية، أو زُيّنت ببعض ألوان الأفكار السياسية.
وإذا ما استثنينا وثيقة قرطاج التي وقعتها أبرز الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية في تونس، وتعدّ بمثابة إعلان نياتٍ أولية حول جملة من القضايا الكبرى، المتفق على أولويتها وإلحاحها، وضرورة التسريع بحلّها، وفي هرمها مقاومة الإرهاب والفساد، وإرساء منظومة للحكامة، وحلّ مشكل البطالة، فإن الحكومة التونسية الجديدة لم تبُح بعد بأي سرّ من أسرارها، بما في ذلك سرّ مبرّرات وجودها، وانبعاثها على أنقاض حكومة الحبيب الصيد، محافظة على جزء كبير من وزرائها، أو تعلن عن خطّةٍ من خططها، في كيفية إنقاذ البلاد من الأزمة البنيوية التي تردّت فيها، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وأمنياً، وسبيلها إلى صيانة السيادة الوطنية في ظلّ التدخل السافر في الشأن الداخلي الذي تمارسه بعض البعثات الديبلوماسية والسفارات والقنصليات الأجنبية، والمنظمات الدولية، وخصوصاً المالية، أو الوعد، مجرّد الوعد، بكشف المجرمين الذين اغتالوا الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد، وهو المطلب الشعبي والنخبوي الذي لا اختلاف حوله.
وتعدّ ولادة هذه الحكومة عسيرةً، مقارنةً بغيرها من الحكومات السابقة، وانطلاقتها صعبة
ولم تخل طريقة تشكيل الحكومة من الوهم والعبثية، فقد تشابهت اللحظات التاريخية على مشكّليها ما بين 1956 واليوم، فهرولوا إلى إشراك الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف، ناسين أو حتى جاهلين بمنطق التاريخ وحتميته التي لا تعرف التكرار، فالمنظمات النقابية للعمال والأعراف، المتناقضة المصالح، يمكن أن تكون سنداً للحكومة، إذا هي استجابت لمطالبها القطاعية المتنامية المثقلة للموازنات المالية للدولة، أما من دون ذلك فهي قوى احتجاج بامتياز، بالنسبة للفئات العمالية، وهي مجموعات ضغط محترفة لتوفير الامتيازات والتسهيلات، وسن التشريعات على المقاس، والاستيلاء على الثروات الوطنية باسم الاستثمار وبعث المشاريع بالنسبة للأعراف، وإن إشراك هذه المنظمات في الحكم، مباشرة أو بصفة غير مباشرة، لن يحدّ من نزعتها المطلبية الخارجة حتى عن سيطرة القيادات النقابية، ولن يعوّض الشركات المتعثرة، أو المفلسة، عن صعوباتها وإفلاسها وحاجتها إلى رأس المال والأرباح التي يجب أن تتوفر، بكل الطرق الممكنة المشروعة والممنوعة في مدوّنة أهل المال والأعمال.
وتعاني الأحزاب السياسية المشاركة في حكومة الشاهد، في غالبها، من ضعف المصداقية لدى عامة الناس، فهي التي شكّلت حكومة الحبيب الصيد المنبثقة عن انتخابات 2014، التي استمرّت سنة ونصف السنة في الحكم، مقرّة بفشلها التام، ما انجرّ عنه سحب الثقة منها بالأغلبية نفسها التي زكّتها، وذلك في أثناء الجلسة البرلمانية المشهودة والصاخبة يوم 30 يوليو/ تموز 2016 التي عرفت انحداراً قيمياً لافتاً في أنطولوجيا السياسة التونسية، وهذه الأحزاب، في واقع الحال، تقرّ ضمنيا بفشلها، وتسحب الثقة عن نفسها، معتقدةً أن الفشل كان من نصيب رئيس الحكومة فقط، وليس عنواناً لوزرائها وخياراتهم الحزبية ورؤاهم السياسية.
ولا تتمتع الأحزاب الأخرى القليلة، الملتحقة حديثاً بالحكومة، بأي صدقيةٍ، فبعضها خيّر التحاق نوابه بكتلة حزب نداء تونس الحاكم، في عمليةٍ تذوب فيها الأنا، بطريقةٍ لا نجدها إلا في
ترسل الطبيعة الفسيفسائية للحكومة الجديدة، من داخلها، ألواناً مختلفة، تسرّ بعض الناظرين، تعكس التعدّد الحزبي، والتنوع الأيديولوجي وتعدّد المشارب والمصالح، لكنها تخفي مرجعياتٍ وأنماط تفكير وولاءات مختلفة، وذوات سياسية وحزبية منتفخة، ستعسّر على رئيس الحكومة الجديد مهامه في إدارة أعمال حكومته، ومدى قدرتها على الالتزام بمبدأ التضامن الحكومي، وستجعل من التعايش السياسي ووحدة الرؤى عمليةً صعبة، خصوصاً لما يتعلق الأمر بسياساتٍ موجعةٍ وباختيارات اقتصادية مملاةٍ، لها علاقة بقطاعات استراتيجية، تلامس حياة الفئات الشعبية الواسعة والهشّة، وتؤثّر فيها، فالأمر يتعلق، هذه المرّة، باختبارٍ حقيقي لمدى وطنية هذه الحكومة، وفسيفسائها الحزبية، وشخصياتها المدنية والوطنية، من عدمه.