19 أكتوبر 2019
تجسس الجميع على الجميع
تؤكد مجدداً فضيحة التجسس الأميركية على رؤساء فرنسا وكبار مسؤوليها بين 2006 و2012، والتي جاءت بعد فضيحة التجسس على المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي أفصح عنها في 2013، أن كل شيء ممكن بين الحلفاء ما عدا الحرب. إذ تشكل المجموعة الأورو-الأطلسية مجموعة أمنية، لا مكان للحرب فيها، فهي متكونة من ديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، لكنها تتنافس في كل المجالات الأخرى، خصوصاً الاقتصادية. وهنا تكمن أهمية التجسس، فإذا كان الشقان، الأمني والسياسي، مهمان جداً، بالنسبة لمختلف أجهزة الاستخبارات، فإن التجسس الاقتصادي يكتسي أهمية كبيرة للحلفاء الغربيين، لاسيما بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى. وبما أن كل رئيس دولة أو حكومة في الدول الغربية أصبح أيضاً عرَّاباً اقتصادياً، لأنه يدافع عن شركات بلاده ويساندها للحصول على أسواق في الخارج، لم يعد التجسس الاقتصادي يتوقف عند المؤسسات الاقتصادية، بل يتعداه أيضاً إلى المؤسسات السياسية... ومن ثم فالتجسس رياضة عالمية، تمارسها كل الحكومات، مع فوارق ضخمة في القدرات. وكما يقال إذا حضر السبب بطل العجب، فالجميع يتجسس على الجميع، ولا أحد يمكنه أن يعطي للآخر دروساً في الأخلاق في هذا المجال. الفرق الوحيد والأساسي أن لأميركا قدرات تقنية وبشرية عالية جداً، تتيح لها التجسس على أي بلد وفي أي وقت، خصوصاً أن جل الشركات العملاقة العاملة في الإنترنت أميركية. وبالتالي، فكل المعطيات والبيانات متوفرة "محليا" إن صح التعبير، إذ تعمد السلطات الأميركية إلى الضغط على تلك الشركات، مثل "غوغل" وغيرها، لتزويدها بكل المعطيات التي تريدها موظفة القانون، إن اقتضى الأمر.
ومن ثم، ليست المشكلة في التجسس في حد ذاته، وإنما في الإفصاح عنه وفضحه، ما يجعل الحكومات الديمقراطية في مأزق أمام رأيها العام. فتنديدات الحكومة الفرنسية دلالة على هذا المأزق، فهي تحاول إيهام الرأي العام بأنها تجهل الأمر الذي تعتبره غير مقبول. لذا، تؤكد أنها أعلمت الحكومة الأميركية برفضها هذه الممارسات، على أساس أن الحلفاء لا يتجسسون على بعضهم... الحقيقة أن الجميع يتجسس على الجميع، فالأوروبيون يتجسسون على بعضهم لأغراض وطنية، وأحياناً لصالح طرف ثالث، كما يدل على ذلك تجنيد الاستخبارات الأميركية للاستخبارات الألمانية للتجسس على الفرنسيين. وردود فعلهم حيال التنصت الأميركي غير منسجمة بعض الشيء. إذ كيف بدولة ديمقراطية تتجسس على مواطنيها أن تتردد في ذلك لما يتعلق بأجانب، حتى ولو كانوا يمثلون دولاً.
وهذه الفضيحة (التجسس على رؤساء فرنسا) جاءت في وقت حساس في فرنسا، لأنها تزامنت مع بدء مناقشة مجلس الشيوخ الفرنسي (في قراءة ثانية) قانوناً حول الاستخبارات، يعطي صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنية، للتجسس على المواطنين الفرنسيين والأجانب (في فرنسا). وعليه، تتبنى فرنسا النهج الأميركي نفسه، أي التجسس الشامل: التنصت الشامل وجمع كل المعطيات الإلكترونية من دون استثناء، من دون مراعاة هوية الشخص المعني، أي أن التجسس يعمل بدون هدف محدد، ومن ثم يصير الجميع مستهدفاً. وهذا يعني أن قوانين التجسس أفرغت قاعدة قانونية أساسية من محتواها، وهي قرينة البراءة، وحلت محلها قرينة الاتهام. وما زال النقاش محتدماً في فرنسا بشأن هذا القانون، لما قد يمثله من انتهاك للحياة الخاصة وللحريات. ودافع مسؤولون فرنسيون عن القانون، وأقر بعضهم بأنه يضع إطاراً قانونياً لبعض ممارسات أجهزة الأمن التي تتم خارج القواعد القانونية. بمعنى أنهم يقرون بأن هذه الأجهزة كانت تخرق قوانين الجمهورية (!). وعليه، فإن الأجهزة الفرنسية معنية بممارسات خارج القانون، مثلها مثل الأجهزة الأمنية الأميركية، ولو بحجم محدود للغاية.
تكاد أجهزة الاستخبارات أن تتحول، بفضل عولمة محاربة الإرهاب، إلى دولة في دولة بتواطؤ من السلطة السياسية، سواء في البلدان الديمقراطية، أو غير الديمقراطية. ففي أميركا، لا تعلم السلطة التنفيذية بكل ما تقوم به وكالة الأمن القومي، مثلاً، على الرغم من أنها عملياً تحت إمرة هذه السلطة، كما لا تعلم بمدى عمليات التجسس اليومية وحجمها في الداخل والخارج. فقضية سنودن (المحلل السابق في وكالة الأمن القومي) دلالة على إفلات أجهزة المخابرات من قبضة السلطة السياسية، ولكن، برضا هذه الأخيرة على ما يبدو. إذا تحولت السلطة السياسية إلى درع لحماية هذه الأجهزة، حتى لما تخترق القوانين الأميركية. فالحكومة الأميركية تتهم سنودن بالخيانة، لإفشائه أسراراً تخص الأمن القومي، لكنها لا تحرك ساكناً لمحاسبة من تجسس على الأميركيين، وعن الأجانب بغير وجه حق... حيث انقلبت الأمور رأساً على عقب: يُعاقب سنودن، لأنه بلَّغ عن الجريمة بطرق غير قانونية. لكن، لا أحد يهتم بالجريمة، وبمن ارتكبها. وكأن القانون أوجد لتقنين وحماية الجريمة (التجسس على أبرياء) المرتكبة باسم الأمن القومي. وهنا، نلاحظ كيف يعمل مبرر الدولة بقوة، إلى درجة إيجاد مسوغات لأمور وتصرفات لا مبرر لها، من المفروض أن يُعاقب أصحابها. يذكّرني هذا بقضية الجنرال الفرنسي أوساريس الذي تابعه القضاء الفرنسي، في مطلع العقد الماضي، واتهمه بتمجيد التعذيب، ليس لأنه مارس التعذيب في حق الجزائريين إبّان حرب الجزائر، ولكن، لأنه تحدث عن ذلك. والمقصود طبعاً تفادي التحقيق في التعذيب، ومحاكمة منظومة سياسية وعسكرية بأكملها.
ونافل القول إن الخطأ الذي ترتكبه السلطة السياسية والأجهزة الاستخباراتية في مختلف الدول، لاسيما تلك المتحكمة في تكنولوجيات الاتصال الحديثة، هو جهلها أو تجاهلها حقيقة لا مفر منها، هي أن العولمة (الإلكترونية) سلاح ذو حدين: فكما سمحت لها بالتجسس، وعلى نطاق واسع على الناس في الداخل والخارج، تسمح أيضاً للغير بكشف ممارساتها التجسسية وفضحها. ومن ثم، من المرجح أن تزاد الفضائح في هذا المجال مستقبلاً، خصوصاً مع تشكل قطبي الصراع: الدول وأجهزتها الأمنية من جهة، ومواقع مثل ويكيليكس وغيره من جهة ثانية.
وهذه الفضيحة (التجسس على رؤساء فرنسا) جاءت في وقت حساس في فرنسا، لأنها تزامنت مع بدء مناقشة مجلس الشيوخ الفرنسي (في قراءة ثانية) قانوناً حول الاستخبارات، يعطي صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنية، للتجسس على المواطنين الفرنسيين والأجانب (في فرنسا). وعليه، تتبنى فرنسا النهج الأميركي نفسه، أي التجسس الشامل: التنصت الشامل وجمع كل المعطيات الإلكترونية من دون استثناء، من دون مراعاة هوية الشخص المعني، أي أن التجسس يعمل بدون هدف محدد، ومن ثم يصير الجميع مستهدفاً. وهذا يعني أن قوانين التجسس أفرغت قاعدة قانونية أساسية من محتواها، وهي قرينة البراءة، وحلت محلها قرينة الاتهام. وما زال النقاش محتدماً في فرنسا بشأن هذا القانون، لما قد يمثله من انتهاك للحياة الخاصة وللحريات. ودافع مسؤولون فرنسيون عن القانون، وأقر بعضهم بأنه يضع إطاراً قانونياً لبعض ممارسات أجهزة الأمن التي تتم خارج القواعد القانونية. بمعنى أنهم يقرون بأن هذه الأجهزة كانت تخرق قوانين الجمهورية (!). وعليه، فإن الأجهزة الفرنسية معنية بممارسات خارج القانون، مثلها مثل الأجهزة الأمنية الأميركية، ولو بحجم محدود للغاية.
تكاد أجهزة الاستخبارات أن تتحول، بفضل عولمة محاربة الإرهاب، إلى دولة في دولة بتواطؤ من السلطة السياسية، سواء في البلدان الديمقراطية، أو غير الديمقراطية. ففي أميركا، لا تعلم السلطة التنفيذية بكل ما تقوم به وكالة الأمن القومي، مثلاً، على الرغم من أنها عملياً تحت إمرة هذه السلطة، كما لا تعلم بمدى عمليات التجسس اليومية وحجمها في الداخل والخارج. فقضية سنودن (المحلل السابق في وكالة الأمن القومي) دلالة على إفلات أجهزة المخابرات من قبضة السلطة السياسية، ولكن، برضا هذه الأخيرة على ما يبدو. إذا تحولت السلطة السياسية إلى درع لحماية هذه الأجهزة، حتى لما تخترق القوانين الأميركية. فالحكومة الأميركية تتهم سنودن بالخيانة، لإفشائه أسراراً تخص الأمن القومي، لكنها لا تحرك ساكناً لمحاسبة من تجسس على الأميركيين، وعن الأجانب بغير وجه حق... حيث انقلبت الأمور رأساً على عقب: يُعاقب سنودن، لأنه بلَّغ عن الجريمة بطرق غير قانونية. لكن، لا أحد يهتم بالجريمة، وبمن ارتكبها. وكأن القانون أوجد لتقنين وحماية الجريمة (التجسس على أبرياء) المرتكبة باسم الأمن القومي. وهنا، نلاحظ كيف يعمل مبرر الدولة بقوة، إلى درجة إيجاد مسوغات لأمور وتصرفات لا مبرر لها، من المفروض أن يُعاقب أصحابها. يذكّرني هذا بقضية الجنرال الفرنسي أوساريس الذي تابعه القضاء الفرنسي، في مطلع العقد الماضي، واتهمه بتمجيد التعذيب، ليس لأنه مارس التعذيب في حق الجزائريين إبّان حرب الجزائر، ولكن، لأنه تحدث عن ذلك. والمقصود طبعاً تفادي التحقيق في التعذيب، ومحاكمة منظومة سياسية وعسكرية بأكملها.
ونافل القول إن الخطأ الذي ترتكبه السلطة السياسية والأجهزة الاستخباراتية في مختلف الدول، لاسيما تلك المتحكمة في تكنولوجيات الاتصال الحديثة، هو جهلها أو تجاهلها حقيقة لا مفر منها، هي أن العولمة (الإلكترونية) سلاح ذو حدين: فكما سمحت لها بالتجسس، وعلى نطاق واسع على الناس في الداخل والخارج، تسمح أيضاً للغير بكشف ممارساتها التجسسية وفضحها. ومن ثم، من المرجح أن تزاد الفضائح في هذا المجال مستقبلاً، خصوصاً مع تشكل قطبي الصراع: الدول وأجهزتها الأمنية من جهة، ومواقع مثل ويكيليكس وغيره من جهة ثانية.