13 ابريل 2022
تحولات في نظرة النخب العربية إلى القضية الفلسطينية
قبل أن تبرز الملامح الأولية لنكبة فلسطين، كانت الفكرة العربية قد انحصرت في المشرق العربي، وتبدَّت لدى نخبة في الجمعيات العربية والمنتديات الثقافية والأحزاب داخل الدولة العثمانية في مرحلة التنظيمات، وفي العهد الدستوري الذي لم يستمر طويلا إلى مرحلة حكم الاتحاد والترقي التي شكلت آخر فرصةٍ لاختبار إمكانية شراكة عربية تركية في دولة دستورية متعددة القوميات، لكن هذا الخيار وصل إلى طريق مسدود ضحية العصبية القومية للشركاء الأتراك في "الاتحاد والترقي"، وهو ما قاد النخب العربية إلى الالتحاق بالثورة العربية الكبرى، تحت قيادة الشريف حسين التي وقعت في مصيدة الخطط البريطانية التي جلبت معها كل الكوارث الممكنة لبلادنا، والتي ما زالت آثارها تفتك بنا.
تمخضت تلك الخطط الاستعمارية عن الاحتلال البريطاني لفلسطين، ورعايته الدائبة لتحقيق المشروع الصهيوني على أرضها، فانكشف للقاصي والداني، للمغرب كما للمشرق، ما بُيِّت للعرب في (ليل) الحرب العالمية الثانية من (كوارث): وعد بلفور وتطبيق المشروع الصهيوني على يد بريطانيا العظمى لخلق "كيان قومي يهودي" من العدم بقوة الغرب وشفاعته باعتباره حلًا غربيًا لـ "المسألة اليهودية" التي هي مشكلة غربية بالأساس، على حساب شعب فلسطين العربي. فكان لانكشاف الحجم الكارثي لهذا المشروع، ومخاطره الكبرى، على حاضر العرب ومستقبلهم، تأثيره المتعاظم على انبساط الفكرة العربية وتعزيزها، ليس في المشرق فحسب، بل في المغرب العربي الكبير. فكان له رجعه العظيم في توسيع القاعدة الاجتماعية والإقليمية للفكرة العربية التي اقتصر تأثيرها، حتى ذلك الحين، على النخب المدينية في المشرق العربي، فشملت، منذ ذلك الحين، شعوب المغرب العربي، ومصر والسودان، حيث كان ما يزال للرابطة الإسلامية، أو الرابطة المحلية هنا، دور السيادة.
ثم ما لبث أن تنامى الشعور برابطة العروبة وازداد عمقًا وشمولا، بعد أن غدت فلسطين، بين الحربين، مسرحاً رئيسياً للمواجهة بين الغرب ومشروعه الصهيوني الاستئصالي من جهة
والشعب الفلسطيني من جهة ثانية. وبالتلازم مع ذلك، تعمقت يقظة الوعي القومي والإدراك المتزايد للمصير العربي المشترك، يُعزِّز ذلك انحيازهم لعدالة القضية الفلسطينية، فعلى خطوط تقاطع النيران على أرض فلسطين، اشرأبت أعناق العرب، وتدفق معها وعيٌ عميق بالمصير العربي المشترك، فتحول ذلك الصراع، مع الزمن إلى رافعةٍ لليقظة القومية العربية، وإلى عتلة لشحذ الوعي بضرورة الوحدة والتضامن، لمواجهة المخاطر، وهو ما ظهر جلياً في تصاعد نفوذ الفكرة العربية، حتى غدت لها الغلبة الفكرية في المشرق، وشرع تأثيرها بالتمدّد، ممتزجاً بعمقها الإسلامي في المغرب ومصر. ولهذا، جمع مؤتمر القدس، في بداية الثلاثينيات، رجالا من المشرق والمغرب ومصر. وظهرت، في هذا العقد أيضاً، المؤلفات النظرية القومية، بما فيها مؤلفات ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبدالله العلايلي، متواقتة مع تصاعد لوحة النضال الفلسطيني، بدءاً من ثورة البراق إلى ثورة القسام النبيلة عام 1936.
هزّت نكبة فلسطين عام 1948، وهزيمة الجيوش العربية، والنزوح الفلسطيني الكثيف، مشاعر العرب وأفكارهم، بيّنت تلك الهزيمة التي تمخض عنها (الكيان اليهودي) بالأفعال خطر الصهيونية على العرب جميعاً التي اقتلعت، أول ما اقتلعت، جزءاً من فلسطين، فاهتز معها، وبأثرها، البنيان السياسي العربي، فسهلت هذه النكبة الشنيعة النيل من مصداقية النخب الليبرالية التي بنت مؤسسات الدولة العربية الحديثة، بالتعاون مع دول الحماية والانتداب الغربية، فاتّهمتها النخب البرجوازية الصغيرة ذات الأصول الفلاحية، بالتقصير أو الخيانة، فمهدت بذلك النقد للعسكريين الطامحين كي يتسلقوا السلطة، وليفرضوا أنفسهم بديلًا (ثوريًا) عن نظامٍ، اعتبروه هرِماً، وليصبحوا هم طليعة الأمة، أو الأمة نفسها، وصية عليها وقائدة لها.
وهكذا صعدت نخبٌ جديدة على موج (النكبة) بذريعة تقصير النخب الليبرالية، وجدارة الثانية في مواجهة الصهيونية، وخلاص فلسطين والوحدة والتنمية. وقد انجذبت مصر، ومعها المغرب العربي، لهذا الخطاب الشعبوي القومي المبسط الذي يضيق بالثقافة والمثقفين، وبالديمقراطية والديمقراطيين، فكانت فلسطين في هذا كله الشعلة الموقدة، والرافعة القومية، والعذر، وأيضًا هي الضحية والذريعة، لكنها، وعلى الرغم من الضجيج الذي رافق صعود العسكر، لم تستفد من خطاب هذه النخب الجديدة سوى الاستنزاف لجدارتها وأحقيتها، مع هزائم متعاقبة أكثر إيلامًا، ذاقت معها فلسطين جور ذوي القربي، سالت معها دماء غزيرة، ولا سيما من "سورية الأسد"، إلى أن شب أبناؤها عن طوق التواكل على القريب، واتجهوا إلى إمساك مصيرهم بأيديهم، فكانت الانتفاضة الأولى 1989هي المحطة التي أمسك فيها أبناء فلسطين بمصيرهم.
احتلت فلسطين، خلال هذه الحقبة العصيبة، موقع القلب في السياسة العربية، الرسمية (قولًا) والشعبية (فعلًا)، وأصبح الجميع، دولاً وأحزاباً، تُقاس جدارتهم بمدى خدمته هذه القضية، والتي تحولت إلى قوة دفع لهيمنة الفكرة العربية على الوعي السياسي العربي، حتى بات مطلب الوحدة جزءاً من النشاط اليومي للسياسة العربية، مع صعود النخب الجديدة القومية في حقبة صعود الناصرية. وبات يُنظر إلى صيغة جامعة الدول العربية على أنها أثبتت عجزها أمام النكبة، وعلى أنها صيغة الحد الأدنى للعمل العربي الذي يجب أن يرتقي إلى مستوى توحيد العرب في دولةٍ واحدة، غير أن هذه الشعارات والأهداف لم تطابقها الممارسة الفعلية لهذه النظم، فاستُهلكت في الكلاملوجيا الإذاعية المشروخة التي خدَّرت الجمهور، بدل أن توقظه من غفوته وتقوده إلى عملٍ فعَّال ومُثمِر، فمثلت نخبة ذلك الزمان (الثورجية)، في المحصلة، أسوأ محام لأشرف قضية وأعدلها.
وضعت هزيمة 1967 كل أفعال تلك النخب القومية العسكرية وأقوالها، ونظمها، على محك
التاريخ وحساباته التي لا ترحم، وأجبرت هذه النظم على اتخاذ موقع الدفاع الاستراتيجي، بعد أن فشلت في صدّ العدوان الإسرائيلي، وأجرت تعديلًا لخطابها لصالح مفهوم يمرحل الأهداف الفلسطينية ـ العربية، على ضوء ميزان القوى القائم، وهكذا تحولت الخطط الاستراتيجية للنظام العربي لتتكيف مع الخطط المصرية (جمال عبد الناصر) التي لخصَّها الشعار الاستراتيجي: إزالة آثار العدوان. وبقيت فلسطين (نظريًا) في مستوى المحور الأول للعمل العربي، والمحرّك الأول لهذا العمل، وحافزاً محرّضاً على الوحدة والتضامن، ولا سيما بعد بروز المقاومة الفلسطينية على تخوم فلسطين، تُذكِّر على الأقل بالغائب الأكبر والحاضر دائمًا: شعب فلسطين، كي لا ينْسى ولا يُنسى.
جاء الانعطاف الحاسم، حينما أخرج الرئيس المصري، أنور السادات، بلاده من دائرة المواجهة، بعقده اتفاقية الصلح مع إسرائيل، مدشناً بذلك سابقة خطيرة، بتحويله القضية الفلسطينية، والعربية إلى قضية "خارجية"، بعد أن كانت، على الأقل نظرياً، مسألة داخلية للسياسة العليا لكل قطر عربي، وهو ما فتح المجال لأن يذهب كل قطرٍ لحل مشكلاته، أو علاقاته مع (إسرائيل) منفرداً، وذهبت منظمة التحرير الفلسطينية إلى رفع شعار يدعو للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بعودة اللاجئين، وتقرير المصير والاستقلال، والتعاطي مع القرارات الدولية.
ساهمت تطورات كثيرة، بالإضافة إلى وزن السابقة المصرية الثقيلة، في ظل تفاقم أزمة
الشرعية في الحكم، وتزايد إقصاء الشعب عن الشأن العام، إلى وصول طرق التنمية المعتمدة إلى طريق مسدود، وانفجار الخلافات العربية ـ العربية تعبيرًا عن التفكك والعجز أكثر ما هو خلاف جديً حول المصلحة العربية، حتى وصل الأمر إلى إقدام العراق على احتلال الكويت، فأحدث هذا الحال وضعيةً دفعت النظم الحاكمة إلى النظر إلى القضية الفلسطينية مسألة تضامن، وينظر إليها مسألة (خارجية) وحسب، على الرغم من بقائها في مركز الانشغالات الشعبية، وليس مهمة وطنية (داخلية)، ثم ما فتئت السياسة العربية الرسمية تزداد تخفّفاً من المسألة الفلسطينية، بعد أن تمركزت جهودها على المشكلات الداخلية السياسية والاقتصادية، المتفاقمة باضطراد. وقد عزّز هذه التوجهات الانقسام الفلسطيني العميق الذي تلطّى وراء رؤيتين سياسيتين، بين رؤية عدمية للصراع تحت شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، واعتبار فلسطين "أرضًا مقدسة"، أرض المحشر والمنشر ، الأرض التي باركنا حولها، وترجمة ذلك أنها وقف إسلامي، لا تخضع للمساومة ولا لغة السياسة الأرضية، ترتفع فوق الصراع السياسي/ الوطني وفوق معايير الممكن إلى فضاء المستحيل والمقدس، وبين رؤية متردّدة في اختيار التسوية خياراً استراتيجياً والتصرف على مقتضاها، بفعل استمرار السياسة التوسعية الصهيونية من جهة ومناكفة خصوم التسوية في الصف الفلسطيني.
ما لبث الانقسام الفلسطيني أن تعدى السياسة إلى "الكارثة" عندما تحول إلى "انفصال" في الجغرافية السياسية الوطنية، أي إلى انفصال إلى كيانين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حكومتين وكيانين استطاب لهما الانفصال، ليصبح كل كيان ملكًا (أو وقفًا) لجهة حزبية، وجرَّ كلاهما القضية الفلسطينية إلى سياسة المحاور، تنقسم بها العرب، بعد أن كانت عامل وحدة، ورافعة للوحدة العربية.
وتبعًا لتبدل الأحوال، بتنا نشهد تراخٍي الوشائج بين الفكرة العربية والقضية الفلسطينية، فبينما احتلت الثانية، سابقاً، موقع المحرك والملهم للفكرة العربية، والباعث الرئيسي لمشاريعها العملية، الوحدة والتضامن، وجعلت من الوحدة قضيةً راهنةً تتطلبها مجابهة المخاطر المحيطة بالمصير العربي. أما في الحالة الراهنة، فقد تآكل هذا الزخم، وأصابه التراخي، غير أنه، في كل مرة تعصف بالشعب الفلسطيني المقادير أو المحن، نرى القضية الفلسطينية تستعيد حضورها في وجدان الجمهور العربي، وتهزه هزًا، لتحتل فيه موقع القلب، والمحرك الفاعل والمتطلِّب للوحدة، ثم لا يلبث الزمن أن يعود مجدّدًا إلى رتابته. وكان في مقدور ثورات الربيع العربي، في حال ظفرها، أن تتيح الفرصة للجمهور العربي أن يضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح في القلب، وفي رعاية العقل.
تمخضت تلك الخطط الاستعمارية عن الاحتلال البريطاني لفلسطين، ورعايته الدائبة لتحقيق المشروع الصهيوني على أرضها، فانكشف للقاصي والداني، للمغرب كما للمشرق، ما بُيِّت للعرب في (ليل) الحرب العالمية الثانية من (كوارث): وعد بلفور وتطبيق المشروع الصهيوني على يد بريطانيا العظمى لخلق "كيان قومي يهودي" من العدم بقوة الغرب وشفاعته باعتباره حلًا غربيًا لـ "المسألة اليهودية" التي هي مشكلة غربية بالأساس، على حساب شعب فلسطين العربي. فكان لانكشاف الحجم الكارثي لهذا المشروع، ومخاطره الكبرى، على حاضر العرب ومستقبلهم، تأثيره المتعاظم على انبساط الفكرة العربية وتعزيزها، ليس في المشرق فحسب، بل في المغرب العربي الكبير. فكان له رجعه العظيم في توسيع القاعدة الاجتماعية والإقليمية للفكرة العربية التي اقتصر تأثيرها، حتى ذلك الحين، على النخب المدينية في المشرق العربي، فشملت، منذ ذلك الحين، شعوب المغرب العربي، ومصر والسودان، حيث كان ما يزال للرابطة الإسلامية، أو الرابطة المحلية هنا، دور السيادة.
ثم ما لبث أن تنامى الشعور برابطة العروبة وازداد عمقًا وشمولا، بعد أن غدت فلسطين، بين الحربين، مسرحاً رئيسياً للمواجهة بين الغرب ومشروعه الصهيوني الاستئصالي من جهة
هزّت نكبة فلسطين عام 1948، وهزيمة الجيوش العربية، والنزوح الفلسطيني الكثيف، مشاعر العرب وأفكارهم، بيّنت تلك الهزيمة التي تمخض عنها (الكيان اليهودي) بالأفعال خطر الصهيونية على العرب جميعاً التي اقتلعت، أول ما اقتلعت، جزءاً من فلسطين، فاهتز معها، وبأثرها، البنيان السياسي العربي، فسهلت هذه النكبة الشنيعة النيل من مصداقية النخب الليبرالية التي بنت مؤسسات الدولة العربية الحديثة، بالتعاون مع دول الحماية والانتداب الغربية، فاتّهمتها النخب البرجوازية الصغيرة ذات الأصول الفلاحية، بالتقصير أو الخيانة، فمهدت بذلك النقد للعسكريين الطامحين كي يتسلقوا السلطة، وليفرضوا أنفسهم بديلًا (ثوريًا) عن نظامٍ، اعتبروه هرِماً، وليصبحوا هم طليعة الأمة، أو الأمة نفسها، وصية عليها وقائدة لها.
وهكذا صعدت نخبٌ جديدة على موج (النكبة) بذريعة تقصير النخب الليبرالية، وجدارة الثانية في مواجهة الصهيونية، وخلاص فلسطين والوحدة والتنمية. وقد انجذبت مصر، ومعها المغرب العربي، لهذا الخطاب الشعبوي القومي المبسط الذي يضيق بالثقافة والمثقفين، وبالديمقراطية والديمقراطيين، فكانت فلسطين في هذا كله الشعلة الموقدة، والرافعة القومية، والعذر، وأيضًا هي الضحية والذريعة، لكنها، وعلى الرغم من الضجيج الذي رافق صعود العسكر، لم تستفد من خطاب هذه النخب الجديدة سوى الاستنزاف لجدارتها وأحقيتها، مع هزائم متعاقبة أكثر إيلامًا، ذاقت معها فلسطين جور ذوي القربي، سالت معها دماء غزيرة، ولا سيما من "سورية الأسد"، إلى أن شب أبناؤها عن طوق التواكل على القريب، واتجهوا إلى إمساك مصيرهم بأيديهم، فكانت الانتفاضة الأولى 1989هي المحطة التي أمسك فيها أبناء فلسطين بمصيرهم.
احتلت فلسطين، خلال هذه الحقبة العصيبة، موقع القلب في السياسة العربية، الرسمية (قولًا) والشعبية (فعلًا)، وأصبح الجميع، دولاً وأحزاباً، تُقاس جدارتهم بمدى خدمته هذه القضية، والتي تحولت إلى قوة دفع لهيمنة الفكرة العربية على الوعي السياسي العربي، حتى بات مطلب الوحدة جزءاً من النشاط اليومي للسياسة العربية، مع صعود النخب الجديدة القومية في حقبة صعود الناصرية. وبات يُنظر إلى صيغة جامعة الدول العربية على أنها أثبتت عجزها أمام النكبة، وعلى أنها صيغة الحد الأدنى للعمل العربي الذي يجب أن يرتقي إلى مستوى توحيد العرب في دولةٍ واحدة، غير أن هذه الشعارات والأهداف لم تطابقها الممارسة الفعلية لهذه النظم، فاستُهلكت في الكلاملوجيا الإذاعية المشروخة التي خدَّرت الجمهور، بدل أن توقظه من غفوته وتقوده إلى عملٍ فعَّال ومُثمِر، فمثلت نخبة ذلك الزمان (الثورجية)، في المحصلة، أسوأ محام لأشرف قضية وأعدلها.
وضعت هزيمة 1967 كل أفعال تلك النخب القومية العسكرية وأقوالها، ونظمها، على محك
جاء الانعطاف الحاسم، حينما أخرج الرئيس المصري، أنور السادات، بلاده من دائرة المواجهة، بعقده اتفاقية الصلح مع إسرائيل، مدشناً بذلك سابقة خطيرة، بتحويله القضية الفلسطينية، والعربية إلى قضية "خارجية"، بعد أن كانت، على الأقل نظرياً، مسألة داخلية للسياسة العليا لكل قطر عربي، وهو ما فتح المجال لأن يذهب كل قطرٍ لحل مشكلاته، أو علاقاته مع (إسرائيل) منفرداً، وذهبت منظمة التحرير الفلسطينية إلى رفع شعار يدعو للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بعودة اللاجئين، وتقرير المصير والاستقلال، والتعاطي مع القرارات الدولية.
ساهمت تطورات كثيرة، بالإضافة إلى وزن السابقة المصرية الثقيلة، في ظل تفاقم أزمة
ما لبث الانقسام الفلسطيني أن تعدى السياسة إلى "الكارثة" عندما تحول إلى "انفصال" في الجغرافية السياسية الوطنية، أي إلى انفصال إلى كيانين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حكومتين وكيانين استطاب لهما الانفصال، ليصبح كل كيان ملكًا (أو وقفًا) لجهة حزبية، وجرَّ كلاهما القضية الفلسطينية إلى سياسة المحاور، تنقسم بها العرب، بعد أن كانت عامل وحدة، ورافعة للوحدة العربية.
وتبعًا لتبدل الأحوال، بتنا نشهد تراخٍي الوشائج بين الفكرة العربية والقضية الفلسطينية، فبينما احتلت الثانية، سابقاً، موقع المحرك والملهم للفكرة العربية، والباعث الرئيسي لمشاريعها العملية، الوحدة والتضامن، وجعلت من الوحدة قضيةً راهنةً تتطلبها مجابهة المخاطر المحيطة بالمصير العربي. أما في الحالة الراهنة، فقد تآكل هذا الزخم، وأصابه التراخي، غير أنه، في كل مرة تعصف بالشعب الفلسطيني المقادير أو المحن، نرى القضية الفلسطينية تستعيد حضورها في وجدان الجمهور العربي، وتهزه هزًا، لتحتل فيه موقع القلب، والمحرك الفاعل والمتطلِّب للوحدة، ثم لا يلبث الزمن أن يعود مجدّدًا إلى رتابته. وكان في مقدور ثورات الربيع العربي، في حال ظفرها، أن تتيح الفرصة للجمهور العربي أن يضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح في القلب، وفي رعاية العقل.