استطاعت الكوريتان إبعاد نفسيهما عن الصراعات الدائرة بين أميركا والصين، مع إعلان الرئيس الكوري الجنوبي، مون جاي إن، وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، في ثالث قمة بينهما، عن مجموعة شاملة من الاتفاقيات، التي ستؤدي، إذا نفذت، إلى خفض التوتر كمقدمة لإنهاء الحرب بين البلدين. وقد تغضب بعض الاتفاقيات واشنطن وبكين، خصوصاً ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين بشأن تفعيل مشاريع التعاون المشتركة، وهو ما قد يقلص من سيطرة الصين على الاقتصاد الكوري الشمالي، فيما قد تعتبر الولايات المتحدة أن هذه المشاريع قد تحد من قدرتها على الضغط على بيونغ يانغ لنزع أسلحتها النووية مقابل رفع العقوبات التي يفرضها مجلس الأمن عليها.
وسيحمل مون الاتفاقيات التي أبرمها مع كيم، خلال القمة الثالثة بينهما هذا العام، إلى اجتماعه مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل. ويأمل مسؤولون كوريون جنوبيون أن يتمكن مون من إقناع ترامب باستئناف المحادثات النووية مع كوريا الشمالية بعد أن ألغى زيارة لوزير خارجيته، مايك بومبيو، إلى بيونغ يانغ الشهر الماضي، بحجة عدم إحراز تقدم في عملية نزع الأسلحة النووية من كوريا الشمالية. وقد تعطي تعهدات كيم ومون، في ثالث قمة بينهما هذا العام، زخماً جديداً للمفاوضات النووية المتوقفة بين واشنطن وبيونغ يانغ وتمهد الطريق إلى اجتماع آخر اقترحه كيم أخيراً على ترامب. وكان كيم قد تعهد خلال اجتماعيه مع مون وخلال لقائه بترامب، في يونيو/حزيران الماضي بسنغافورة، بالعمل من أجل "نزع كامل للسلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية"، لكن المناقشات بشأن كيفية تنفيذ هذا الالتزام تعثرت، إذ تطالب واشنطن بإجراء ملموس نحو التخلي عن السلاح النووي قبل الموافقة على هدفين أساسيين لبيونغ يانغ هما إعلان رسمي لإنهاء الحرب التي دارت بين الكوريتين بين 1950 و1953 وتخفيف العقوبات الدولية الصارمة المفروضة عليها.
ووصف ترامب أحدث تعهدات الزعيم الكوري الشمالي بأنها "مشجعة جداً". وكتب، على "تويتر" أمس، "وافق كيم جونغ أون على السماح بعمليات تفتيش نووية على أساس مفاوضات نهائية وعلى تفكيك نهائي لموقع تجارب ومنصة إطلاق في وجود خبراء دوليين. في الوقت نفسه لن تكون هناك تجارب صاروخية أو نووية". ورحبت بكين بنتائج القمة بين الكوريتين، مؤكدة أنها ستواصل دعم الجانبين لإجراء مزيد من المحادثات حول الحد من التوتر. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، غينغ شوانغ، إن بكين لاحظت التأثير الإيجابي للاجتماع على تخفيف التوترات العسكرية وتعزيز محادثات السلام وعملية نزع السلاح النووي. يشار إلى أن الصين هي أهم حليف لكوريا الشمالية، وقد استضافت محادثات سداسية لنزع السلاح النووي، وتصر على ضرورة احترام مصالحها في أي تسوية طويلة الأمد. كما اعترضت بشدة على نشر كوريا الجنوبية لنظام دفاع صاروخي أميركي متقدم يعزز الوجود العسكري لواشنطن في شمال شرق آسيا، مشيرة إلى أنه يهدد أمن الصين. وأي تحرك لتقليل التهديد الصاروخي الكوري الشمالي قد يمنحها الأمل في إمكانية إزالة النظام الدفاعي الأميركي يوماً ما. كما أعلن الكرملين، في بيان، أنه يؤيد الاتفاقات التي توصل إليها كيم ومون، ووصفها بأنها خطوات فعالة نحو تسوية سياسية. وقال سفير روسيا لدى كوريا الشمالية، ألكسندر ماتسيغورا، "تخفيف التوتر العسكري على الحدود أمر جيد، ونرحب بهذا الاجتماع ونتمنى بصدق أن يجد زملاؤنا الكوريون الجنوبيون والشماليون فرصة للاتفاق على برامج للتفاعل والتعاون". وأضاف "الشيء الأهم هو ألا يتدخل أحد في شؤونهما، وألا تضع جهة ما العصا في عجلة القيادة لعرقلة نشاطها".
وأعلن مون جاي إن وكيم جونغ أون، في ختام اليوم الثاني من المباحثات في بيونغ يانغ أمس الأربعاء، عن مجموعة شاملة من الاتفاقيات، تضمنت وعد كيم التخلص وبشكل دائم من المجمع النووي الرئيسي في كوريا الشمالية في حال اتخذت الولايات المتحدة إجراءات متماثلة، وقبول مراقبة المفتشين الدوليين لإغلاق موقع الاختبار الصاروخي الرئيسي ومنصة الإطلاق. كما تعهدا بالعمل معاً لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في العام 2032. وفي مؤتمر صحفي مشترك، قال كيم، الذي كان يقف إلى جانب مون، "لقد اتفقنا على جعل شبه الجزيرة الكورية أرض سلام خالية من الأسلحة النووية والتهديد النووي. الطريق إلى مستقبلنا لن تكون سلسة دائماً، وقد نواجه تحديات ومحاولات لا يمكننا توقعها، لكننا لا نخشى الرياح المعاكسة، لأن قوتنا ستنمو ونحن نتغلب على كل محاولة مستندين على قوة أمتنا". وأعلن مون أن كوريا الشمالية مستعدة أيضاً لإغلاق مجمعها النووي الرئيسي إذا اتخذت الولايات المتحدة إجراء في المقابل لم تحدده بيونغ يانغ. وأعلن كيم أنه سيزور سيول قريباً، فيما سيكون أول زيارة على الإطلاق لزعيم كوري شمالي لعاصمة كوريا الجنوبية، فيما توقع مون أن تتم الزيارة بحلول نهاية العام الحالي.
ورغم إيقاف كوريا الشمالية من جانب واحد تجاربها النووية والصاروخية إلا أنها لم تسمح بحضور مفتشين دوليين لعملية تفكيك موقع تجاربها النووية الوحيد المعروف في مايو/أيار الماضي، ما أثار انتقادات لها بأن الإجراء استعراضي فقط ومن السهل التراجع عنه. وأفاد بيان مشترك وقعه مون وكيم بأن كوريا الشمالية ستسمح لخبراء من "دول معنية" بمشاهدة إغلاق موقع تجارب محركات الصواريخ ومنصة إطلاق في بلدة دونغ تشانغ ري بشمال غرب البلاد. وهذه المنشآت مركز رئيسي لتجارب الصواريخ البالستية العابرة للقارات المصممة للوصول إلى الولايات المتحدة. وعبرت بيونغ يانغ أيضاً عن "استعدادها" للقيام بإجراءات إضافية مثل تفكيك دائم لمنشآتها النووية الرئيسية في يونغبيون إذا اتخذت الولايات المتحدة إجراء في المقابل لم تحدده. وقال مستشار الأمن القومي الكوري الجنوبي، تشونغ أوي يونغ، إن الخطوات الأميركية قد تشمل إعلان انتهاء الحرب.
كما أبرمت الكوريتان اتفاقاً عسكرياً منفصلاً يهدف لمنع وقوع اشتباكات مسلحة بين الخصمين اللذين ما زالا في حالة حرب، بسبب انتهاء الحرب بينهما بهدنة وليس بمعاهدة سلام. وينص الاتفاق على أن يسحب البلدان تدريجياً مواقع الحراسة والعتاد العسكري، في إجراء نحو تحويل أكثر الحدود تحصيناً في العالم إلى منطقة منزوعة السلاح. ووفقاً لبيان مشترك وقعه قائدي جيشي البلدين وافقت الكوريتان على إقامة منطقة عازلة على طول حدودهما البرية والبحرية للحد من التوترات العسكرية ومنع الصدامات العرضية. كما اتفقا على سحب 11 نقطة حراسة من المنطقة المنزوعة السلاح بحلول ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وإنشاء منطقة حظر جوي فوق خط ترسيم الحدود العسكرية التي تقسم الكوريتين اللتين ستقومان بتسيير طائرات ومروحيات وطائرات من دون طيار. كما اتفقت الكوريتان على نزع سلاح قرية حدودية مشتركة بينهما، بداية بإزالة الألغام الأرضية. وجاء في البيان المشترك الذي وقعه قائدا جيشي البلدين إن الكوريتين ستعملان على إزالة الألغام في المنطقة الأمنية المشتركة بقرية بانمونغوم في أكتوبر/تشرين أول المقبل، وكذلك إزالة نقاط الحراسة هناك. وأضاف أن الكوريتين وافقتا على التحقق المشترك من نتائج مثل هذه الخطوات وكذلك السماح للسياح والمراقبين بالتحرك بحرية داخل المنطقة الأمنية المشتركة.
اقتصادياً، ترغب سيول وبيونغ يانع في تفعيل مشاريع التعاون المشتركة، إذ يريد كيم أن تستفيد بلاده من القوة الاقتصادية للجنوب فيما يريد مون أن يبعد عن شبه الجزيرة الكورية شبح نزاع مدمر بين الكوريتين. واتفق البلدان على بدء العمل على إعادة توصيل السكك الحديدية والطرق خلال العام الحالي. كما ستعملان على استئناف العمل في منطقة صناعية مشتركة في مدينة كايسونغ الحدودية في كوريا الشمالية، وتنظيم جولات في منتجع جبل كومجانغ في الشمال عند توفر الظروف المؤاتية. واتفقت الكوريتان أيضا على السعي لتقديم عرض مشترك لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2032 والاشتراك معاً في منافسات دولية أخرى من بينها أولمبياد 2020 في طوكيو. ويعتزم مون زيارة جبل بايكتو مع كيم، اليوم الخميس، قبل العودة إلى بلده. وتقول كوريا الشمالية إن منطقة جبل بايكتو هي محل ميلاد جد ووالد كيم. وزيارة مون هي الأولى لرئيس كوري جنوبي إلى بيونغ يانغ خلال عقد من الزمن، بعد زيارة كيم داي جونغ في 2000 ورو مون هيون في 2007. وقامت صحيفة "رودونغ سنمون" الناطقة باسم الحزب الحاكم في بيونغ يانغ بتغطية واسعة لبدء القمة ونشرت، أمس الأربعاء، 35 صورة على الأقل على أربع من صفحاتها الست. وإحدى الصور هي المعانقة بين الزعيم الكوري الشمالي والرئيس الكوري الجنوبي في مطار بيونغ يانغ ثم مشاهد الترحيب بهما حين جابا شوارع العاصمة وأخرى لتبادل الأنخاب خلال العشاء الرسمي.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)