ترشُّح البشير وهزال المعارضة السودانية
ظل الرئيس السوداني، عمر البشير، وحزبه الحاكم، المؤتمر الوطني، يناورون منذ أكثر من ثلاثة أعوام، حول ترشحه لفترة رئاسية جديدة، في الانتخابات المزمع انعقادها في 2015، فيطلقون تصريحاً، ثم ينسخونه بآخر. أوردت صحيفة الراية القطرية في 12 مارس/ آذار 2011، على لسان الرئيس عمر البشير نفسه، أنه لن يترشح في الانتخابات المقبلة، مؤكداً أن "المؤتمر الوطني" سوف يعقد مؤتمره العام في عام 2013 لاختيار المرشح الرئاسي البديل. وكانت تلك أول مرة يعلن فيها البشير عدم رغبته في الترشح.
جرى تأكيد لما قال به البشير، أخيراً، في ما صرح به القيادي في حزب المؤتمر الوطني "الحاكم" في السودان، أمين حسن عمر، حيث قال إن الرئيس عمر البشير كان يعني ما يقول، حين أعرب عن عدم نيته الترشح لرئاسة الحزب والانتخابات الرئاسية المقبلة. وأضاف: "موقف البشير يعبر عن قناعه عامة في الحزب بالإفساح لقيادات جديدة، ومواصلة الإصلاح وتجديد الدماء".
قبل أسبوع تقريباً، أوردت محطة بي بي سي، نقلاً عن إبراهيم غندور، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم، قوله، إن الرئيس عمر حسن البشير قد يترشح لفترة ولاية جديدة، على الرغم من تأكيده سابقاً أنه ينوي التخلي عن السلطة بعد 25 عاماً في الحكم. وانتهت سلسلة التصريحات هذه، المتناقضة حيناً، وغير الجازمة حيناً آخر، بتأكيد ترشح البشير لولاية جديدة. ما قدح في الأذهان أن كل ذلك التذبذب لم يكن سوى مخططٍ مدروس لإرباك قوى المعارضة، وإبطال خططها، بإنعاش آمالها في إمكانية ذهاب البشير طواعية، وصرفها من دائرة الفعل على الأرض، إلى دائرة الترقب والانتظار. ويبدو أن المخطط قد نجح بدرجة كبيرة في ما هدف إليه. الآن، ترشح البشير، واتضح، بجلاءٍ شديد، أن المعارضة في أسوأ حالاتها.
في نهاية العام الماضي، تفاءل السودانيون خيراً، حين رأوا إبعاد البشير نائبه الأول، علي عثمان محمد طه، وغريمه نافع علي نافع. ظن أكثرية السودانيين أن البشير أراد بإزاحة الرجلين القويين، إضافةً إلى قياديين آخرين، أن يمهد الطريق للمرشح الجديد الذي سوف يخلفه. واستنتجوا من ذلك أن النظام ربما أحس بورطته المزمنة، وشرع بجدٍ في إيجاد مخرج منها، غير أن التفاؤل وحسن الظن خابا تماماً، بعد أن قطع إعلان ترشح البشير قول كل خطيب.
في يناير/ كانون ثاني 2014، خرج البشير على السودانيين بما عُرف بخطاب "الوثبة"، ألقاه على جمعٍ غفيرٍ من القيادات السياسية والحزبية من الحكومة والمعارضة، في قاعة الصداقة في الخرطوم. كان لافتاً في الجلسة تركيز كاميرات الإعلام الحكومي عدساتها على حسن الترابي، والصادق المهدي، وغازي صلاح الدين المعروفين بمعارضة النظام. وأوحى ذلك لكثيرين أن مصالحة وطنية من نوعٍ ما، بين القوى المحافظة، في طريقها للحدوث، وأن مراجعة حقيقية للمسار، وتعديلات جوهرية، وربما انفتاحاً على قوى المعارضة الأخرى، في طريقها إلى الحدوث.
أربك خطاب الوثبة قوى المعارضة، وأحدث شروخاً في وسطها. فحسن الترابي وغازي صلاح الدين، الذين تربطهم مع النظام الحاكم المظلة القديمة للحركة الإسلامية السودانية، مالوا، في البدء، إلى جانب الحكومة. كما يبدو أن آمال الصادق المهدي، الداعي إلى التفكيك السلمي للنظام، والذي يشارك أهل الحكم المرجعية الإسلامية، والنفور من التوجهات العلمانية، قد انتعشت، هي الأخرى. لكن، ما أن تجرأ الصادق المهدي، وانتقد سلوك الميليشيا الحكومية التي شكلتها الحكومة أخيراً، وأسمتها "قوات الدعم السريع"، حتى أُودع السجن شهراً. وما أن جرى الإفراج عنه، طار إلى الخارج، ليسطر مع الجبهة الثورية ما سمي "إعلان باريس"، وليطوف، عقب ذلك، على العواصم الإقليمية مروجاً له. كما جرى، أيضاً، اعتقال زعيم حزب المؤتمر السوداني المعارض، إبراهيم الشيخ، ثلاثة شهور للسبب نفسه.
رفضت الحكومة مقترح المعارضة تأجيل الانتخابات، وتشكيل حكومة قومية، تُسند إليها مهمة رسم خريطة التحول الديمقراطي، لفترة انتقالية، تعقبها انتخابات عامة، مراقبة دولياً. بل، أعلنت الحكومة، من جانبها، عن تشكيل لجنةٍ للانتخابات، تابعة لرئاسة الجمهورية، وبدأت تعد على الفور للانتخابات، وفق الرؤية والتخطيط الحكوميين.
لا تنبئ الصورة الكاريكاتورية للمشهد السياسي السوداني الراهن بأي انفراج قريب. فالصادق المهدي الذي يطوف الآفاق حالياً يروج تغيير النظام، يجلس أحد أبنائه في القصر الجمهوري، مساعداً لرئيس الجمهورية، كما يعمل ابنٌ آخرٌ له ضابطاً في جهاز الأمن. هذا الوضع، سواءٌ أكان متفقاً عليه بين الصادق المهدي وابنيه، أم لم يكن، فإنه ظل يثير الشكوك والتساؤلات لدى السودانيين، ويضع مصداقية الصادق المهدي، معارضاً جاداً للنظام، على المحك. أما محمد عثمان الميرغني، فابنه، هو الآخر، مساعد لرئيس الجمهورية، وحزبه شريكٌ في الحكومة القائمة. وقد أعلن، قبل أيام، استعداد حزبه لخوض الانتخابات التي أعلنت عنها الحكومة. أما الترابي فعينه على وحدة الحركة الإسلامية، وعلى أجندة التنظيم الدولي، خصوصاً مع التطورات الإقليمية الجارية حالياً. وهو حين يقترب من المعارضة، إنما يقترب بدافع الضغط على الحكومة، حتى تتم وحدة الإسلاميين وفق رؤيته وشروطه هو. ولو تحقق له ذلك، سوف يركل قوى المعارضة، من دون أن يرمش له جفن. وقد رأينا، قبل أيام، أنه حين كان يخاطب، بعد غيبة طويلة، عضوية الحزب الحاكم في الخرطوم، مؤكدًا عودة الإسلاميين إلى الوحدة، كان الأمين السياسي لحزبه،
كمال عمر، يناقش ويبارك مع المعارضين، وثيقة ما سمي "إعلان طيبة" الداعية إلى إسقاط النظام، في قرية طيبة، في ولاية الجزيرة، إثر دعوة تقدم بها إلى قوى المعارضة شيخ الطريقة القادرية العركية المعارض للنظام.
غاب عن إعلان "وثيقة طيبة" تلك، الحزب الشيوعي السوداني. بل وصف أحد قيادييه الوثيقة بأنها "ضعيفة ولا تلبي الطموحات". كما نفى، عبد القيوم عوض السيد بدر، الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني، مباركتها، على الرغم من وجود إبراهيم الشيخ، زعيم الحزب، ضمن من لبوا الدعوة. أما فاروق أبو عيسى، رئيس تحالف المعارضة، فقد ظل، منذ فترة، يهاجم إعلان باريس، والجبهة الثورية، والجبهة الوطنية للتغيير.
هذه المعارضة المبعثرة، غير المتصلة بقواعد شعبية ذات وزن، والفاقدة المصداقية وسط الجماهير، لن تشكل أي تحد، في المدى المنظور، لحزب الرئيس البشير. أما العمل المسلح في جنوب كردفان والنيل الأزرق فقد أصبح يعاني، بفعل ضغط الطيران الحكومي، وميليشيا الدعم السريع، إضافة إلى حرب الجنوب، وضعف الدعم الدولي. وهكذا، سيبقى المشهد السوداني غائماً.
سيفوز الرئيس البشير بالانتخابات القادمة فوزاً كاسحاً، قاطعتها المعارضة، أم شاركت فيها، غير أن الحكومة تكون، حينها، قد أضاعت فرصة أخرى، ربما تكون الأخيرة، للم الشمل الوطني، ووضع البلاد على أولى عتبات الوفاق والسلم الأهلي، والتحول الديمقراطي. ولو قدر لسلطة الإنقاذ، وللبلاد، أن تبقيا متماسكتين مدة الأعوام الخمسة المقبلة، فإنها ستبقى، في أحسن الأحوال، من غير أي إنجاز، ومن غير أي تقدم، في أيٍّ من جبهات أزماتها الراهنة المستحكمة. أما أسوأ السيناريوهات، فليس من الميسور تصور مداه. فكل عوامل الكارثة الماحقة ماثلة، الآن، في هذه الحياة السودانية التي أخذت تغالب، في مجملها، أفدح تعُّينات اليأس والقنوط.