تشكيل الحكومة لن ينقذ تونس
يقترب رئيس الحكومة التونسية الجديدة، هشام المشيشي، من إعلان وزرائها الذين سيعملون، تحت إمرته، على تحقيق ما تراكم من مطالب وحاجات. والأرجح، من التسريبات أو تصريحات المشيشي نفسه، أن يكون أعضاء الفريق كله من "التكنوقراط" تقريبا. المصطلح الذي ظل يُستعمل بعد الثورة في عام 2011 للدلالة على شخصياتٍ غير متحزّبة، وتتمتع عموما بكفاءة إدارية وتقنية عالية. وقد جرّبت تونس هذه الوصفة اثر إسقاط حكومة الترويكا سنة 2014، حين تعيين مهدي جمعة لترؤس حكومة مؤقتة، كانت مهمتها الأساسية الإعداد لانتخابات 2014، ونجحت فيها. ولكن التونسيين لم يشعروا بفارق نوعي مع حكومة الكفاءات تلك، إذ لم تسجل في سنة عهدتها مؤشراتٍ ذات دلالة في المجال الاقتصادي الاجتماعي، بل انخفضت كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه، يحسب لها احترام تعهداتها وتنظيم الانتخابات في أوانها ونجاحاتها الأمنية.
تعيش تونس حالة من ضعف الأحزاب وعزوف المواطنين عنها وعن الانتخابات معا
لم تبد الأحزاب المؤثرة موقفا صارما لهذا التوجه. وعلى الرغم من كل الضجيج الذي أثارته أخيرا، فإن كل الدلائل تفيد بأنها ستصادق على حكومة التكنوقراط المرتقبة، ولن تعترض عليها فى مجلس النواب سوى كتل صغيرة، كتلة أمل وعمل وكتلة الكرامة وغيرهما. ولن تذهب حركتا النهضة والشعب والتيار الديمقراطي، وأحزاب أخرى، إلى هذا الخيار طوعا، وإنما مضطرة، ذلك أن خوفها من فقدان مكاسبها الانتخابية (عدد المقاعد، الحضور الإعلامي، الامتيازات ..)، خصوصا أن عمليات استطلاع الآراء التي تفيد بتراجع الأحزاب التي حكمت من دون استثناء، تثنيها عن ذلك، فباستثناء حزب النظام القديم، الدستوري الحر، تبدو كل تلك الأحزاب في حالة تراجع. ويتفاقم الإحساس لديها بالخوف الوجودي أحيانا، حين تتأكد، يوما بعد يوم، أن الرئيس قيس سعيد لا يؤمن بها، بل يعتبرها مسؤولةً عما آل إليه حال البلاد.
ويبدو أن المشيشي قد عوّل على خرّيجي المدرسة القومية للإدارة ومسؤولين تسلموا مهام إدارية عليا، في القطاعين العمومي والخاص، وبذلك يقطع مع تجارب سابقيه الذين عوّلوا على قادة الأحزاب ومناضليها وخبراتها. ولن ينجي الحكومة مرورها في مجلس النواب من الهزات، وربما سيشكل المنجزان، الاقتصادي والاجتماعي، طوق النجاة الذي سيعفيها من الإسقاط أو التعديلات الحادّة. ولكن هذا السيناريو الوردي مستبعدٌ في الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تتدهور بشكل متسارع، حتى أن هناك من لا يستبعدون أن يسقطها الشارع في الأشهر القليلة المقبلة، ولن تجد أي سند حزبي يدافع عنها أمام الغليان الذي ستشهده البلاد، وربما تتحيّن الأحزاب هذه الفرصة الواردة جدا من أجل الإجهاز عليها، غير أن هذا مستبعد، خصوصا وأن الأحزاب لم تضمن بعد القيام بحزمة الإصلاحات الضرورية التي يمكن أن تغير المشهدين، الحزبي والسياسي معا .
ليست الأحزاب التونسية مؤهلة حاليا للمساهمة في إصلاح المشهد السياسي إنقاذا للانتقال الديمقراطي
ليست الأحزاب التونسية مؤهلة حاليا للمساهمة في إصلاح المشهد السياسي إنقاذا للانتقال الديمقراطي، ما لم تقم بمراجعات عميقة تخص ثقافتها وممارساتها، من أجل القطع مع التناحر والتنافر، وقد تعممّت صور مهينة عنها، رذّلت الأحزاب في عيون التونسيين. ومن شأن النقد الذاتي الذي يفترض أن يترافق مع تخليق المشهد السياسي أن يشكل مناخا مواتيا للبدء في إصلاح سياسي عميق، قد ينقذ الإنتقال الديمقراطي برمته. كما أن ثمة إجراءات ضرورية، على غرار إرساء المحكمة الدستورية وسن قوانين متعلقة بالحياة الحزبية، لعل أهمها تنقيح قانون الأحزاب ذاته، من شأنها أن تساهم في إشاعة مناخٍ مواتٍ لمزيد من عوامل تعزيز هذا الانتقال الديمقراطي، إذ لا يعقل أن تظل تونس تحتضن نحو 250 حزبا سياسيا ظللت المشهد، وقدّمت خريطة مزيفة، وعقدت اختيار الناخبين. ويفترض أيضا أن تشمل الإصلاحات هذه شرطا لإعراب حسن النيات بشأن تمويل الأحزاب، من أجل تمويل عمومي على قاعدة الشفافية، من دون إغفال أهمية منع السياحة الحزبية وتغيير القانون الانتخابي الذي عطل فرز أغلبيات برلمانية منذ 2014، وقد تعمق الأمر في ظل ضعف الأحزاب وعزوف المواطنين عنها وعن الانتخابات معا. وقد عبرت، أخيرا، عن مطالباتٍ بهذه الإصلاحات التي تدور بشأنها حاليا عدة مبادرات عرائض وبيانات، استحضر بعضها ضمنيا أو صراحة خطر الرئيس سعيد.
لا ترغب بعض الأحزاب في الاصطدام برئيس الجمهورية في سياق اقتصادي صعب، قد يأخذ تونس إلى الإفلاس، وهي تعتبر أن مقاومة شعبويته التي تهدّد الديمقراطية الناشئة تحتاج تحقيق الرخاء الاقتصادي للفئات والجهات التي ظلت مقصية. وهي تعول على حزمة الإصلاحات السياسية المشار إليها أعلاه حتى تنقد المسار الانتقالي من خطر الشعبوية والانحراف نحو يمينٍ شبه فاشي، يصنع الحنين إلى الاستبداد. تقترح مبادراتٌ حوارا وطنيا خارج البرلمان، للأسف، ربما يكون في شكل لقاء وطني أو مؤتمر جامع من أجل إنقاذ البلاد، ووضع خريطة طريقٍ لا تنقلب على الشرعية، وذلك قبل حلول موسم الطوفان.