يتوجه اليوم نحو 46.5 مليون مسجل للإدلاء بأصواتهم في "استفتاء القرن" حول مصير عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي. وقد شطر الجدل حول "البقاء" في أوروبا أو "الخروج" منها، المجتمع البريطاني بشكل غير مسبوق، إذ تداخلت التحالفات، وتقاطعت المصالح المتباينة، والتقى خصوم الأمس في خندق واحد، وتشتت حلفاء قاتلوا لسنوات طويلة جنباً إلى جنب. وانقسم المشهد السياسي قبيل استفتاء اليوم إلى معسكريين رئيسيين، أحدهما يُدعى "بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي"، والآخر يدعو أنصاره لـ"التصويت للخروج" من الاتحاد، وعلى ضفاف كل منهما وقفت قوى سياسية واجتماعية واقتصادية لم تشأ التماهي مع أي من المعسكرين رغم تبنيها لوجهة نظر هذا المعسكر أو ذاك.
"بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي"
يقود الرئيس السابق لمجموعة متاجر "ماركس آند سبنسر"، لورد روز، حملة "بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي"، المنادية بـ"بقاء" بريطانيا في الاتحاد. وتبدو هذه الحملة الأقوى في ساحات التحشيد لاستفتاء اليوم، إذ إنها تلقى الدعم والتأييد من رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، الذي أكد مراراً أنه "سيخوض الحملة بقلبه وروحه لإقناع الشعب البريطاني بالبقاء في الاتحاد الأوروبي". ويساند كاميرون 24 وزيراً من حكومته، فيما يعارضه 5 وزراء فقط. كما يساند معسكر "البقاء" 172 نائباً من حزب المحافظين في مجلس العموم، و218 نائباً من حزب العمال، و54 نائباً من الحزب القومي الاسكتلندي، والنائبة الوحيدة عن حزب الخضر. ويدعم زعيم حزب العمال، جيريمي كوربن، وزعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، نيكولا ستورجن، وزعيم حزب الأحرار الديمقراطي، تيم فارون، خيار "البقاء". ويساندهم في ذلك ثلاثة رؤساء وزراء سابقين هم، جون ميجر، توني بلير، وغوردن براون، إلى جانب عمدة لندن الجديد، صادق خان.
ويساند 55 بالمائة من غرف التجارة البريطانية "البقاء" في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك كبرى الشركات المدرجة في بورصة لندن. ووقع أخيراً أكثر من 1280 رئيساً تنفيذياً لشركات بريطانية نداءً يدعم خيار "البقاء". وتوظف الشركات الموقعة على الرسالة التي نشرت في الصحف البريطانية، حوالي 1.75 مليون شخص، ومنها 50 شركة من ضمن الشركات المائة المُدرجة في مؤشر "فايننشال تايمز" المالي. وفي فبراير/ شباط الماضي، وقع نحو 200 رئيس شركة بيان دعم لحملة كاميرون لإبقاء البلاد فى الاتحاد الأوروبي، محذرين من أن الخروج منه سيعرّض الاقتصاد البريطاني للخطر. وفي رسالة مفتوحة نشرت في صحيفة "ذي تايمز"، حذر قادة شركات، من بينهم رئيس مجلس إدارة "بي ايه اي سيستمز"، روجر كار، ورئيس مجلس إدارة "بريتش بتروليوم"، بوب دادلي، ورئيس فريق "ماكلارن" لسباقات "الفورمولا واحد"، رون دينس، من مخاطر خروج بريطانيا من أوروبا. وتحظى حملة "البقاء" بدعم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند. كما تحظى بدعم مؤسسات دولية، منها صندوق النقد الدولي، ومجموعة السبع، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
واستطاعت حملة "بريطانيا أقوى في الاتحاد الأوروبي" تأمين حوالي 7 ملايين جنيه إسترليني لتمويل برامجها وأنشطتها الدعائية. وتبرع مالك سلسلة متاجر "سينزبري" بحوالي 2.3 مليون جنيه إسترليني، في حين قدمت شركات كبرى، مثل "غولدمان ساكس" و"سيتي بنك"، ورجال أعمال ومستثمرين، باقي المبلغ. وأعلن كل من النجم السينمائي دانيال كريج (جيمس بوند)، ونجم كرة القدم ديفيد بيكهام، تأييدهما للبقاء في الاتحاد الأوروبي.
وترى حملة "بريطانيا أقوى في الاتحاد" أن الخروج سوف يضر بصادرات البلاد، لأنها ستفقد حرية الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، التي تعد أكبر وجهة لصادراتها. ومن شأن مغادرة بريطانيا للاتحاد أن تؤدي إلى تقويض قطاع الخدمات المالية في المملكة المتحدة، الذي يمثل حوالي 10% من إجمالي الصادرات، لأن البنوك التي تعمل من المملكة المتحدة سوف تفقد قدرتها على القيام بأعمال تجارية في أي دولة عضو في الاتحاد. ويُرجح أن يؤدي الخروج إلى فقدان 3 ملايين وظيفة لاحقاً وتراجع الاستثمارات الأجنبية وخسارة 10 إلى 15 بالمائة من قيمة الجنيه الاسترليني، فضلاً عن تراجع الناتج المحلي الإجمالي بدرجة 2.2 بحلول 2030 وتراجع مركز لندن المالي. ناهيك عن الخشية من أن يؤدي الخروج إلى تراجع مكانة بريطانيا السياسية والعسكرية في العالم.
"صوتوا للخروج"
على الرغم من صوتها العالي وحضورها القوي، إلا أن حملة "صوتوا للخروج" من الاتحاد الأوروبي لا تحظى بكثير من التأييد داخل الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والقطاعات الاقتصادية. ويُعتبر عمدة لندن السابق والنائب في مجلس العموم عن حزب المحافظين، بوريس جونسون، أبرز وجوه الحملة الداعية إلى الخروج. ويقف إلى جانب جونسون خمسة وزراء من حكومة المحافظين، أبرزهم وزير العدل مايكل غوف، ووزيرا العمل أيان دنكان سميث، والثقافة جون ويتنغديل، وممثل الحكومة في البرلمان كريس غريلنغ، ووزيرة شؤون أيرلندا الشمالية تيريزا فيليرز.
ويخوض زعيم حزب "الاستقلال" الشعبوي المعارض لأوروبا وللهجرة، نايجل فاراج، حملة منفردة من أجل خيار "الخروج"، إذ لا يرغب القائمون على حملة "صوتوا للخروج" التعاون معه. وفي خلفية معسكر "الخروج" تقف أحزاب "بريطانيا أولاً" و"الحزب القومي البريطاني" و"عصبة الدفاع الإنجليزية" و"الجبهة الوطنية"، وكلها أحزاب يمينية شعبوية تؤيد بتطرف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
استطاعت حملة "صوتوا للخروج" تأمين حوالي 2.7 ملايين جنيه إسترليني لتمويل برامجها وأنشطتها الدعائية. ولا تحظى هذه الحملة إلا بتأييد نقابة عمال النقل التي أعلنت عن دعمها لخروج بريطانيا من أوروبا.
يقول مؤيدو هذه الحملة إن قرار "الخروج" سيوفر للخزينة البريطانية 8.5 مليارات جنيه استرليني، أي قيمة مساهمة بريطانيا السنوية في موازنة الاتحاد، وتعزيز السلطات التشريعية البريطانية، والتخلص من تفوّق القوانين والمحاكم الأوروبية، وتحرير التجارة البريطانية من قيود المؤسسات الأوروبية، والتخلص من بيروقراطية هذه المؤسسات غير المنتخبة. كما أن "الخروج" سيمكّن المملكة المتحدة من السيطرة على الهجرة والحدود وبالتالي تحسين خدمات الصحة والتعليم والسكن التي تراجعت بسبب آلاف المهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي.
انقسام جغرافي
بينما تؤيد العاصمة السياسية والاقتصادية، لندن، التي يبلغ عدد سكانها حوالى 8.6 ملايين، بقاء البلاد في أوروبا، بنسب تراوح حول الـ60 بالمائة، حسب استطلاعات الرأي، يميل سكان الريف الانكليزي أو "الحزام الأخضر" نحو تأييد خيار "الخروج". أما إقليم اسكتلندا فيعتبر الأكثر تأييداً لأوروبا بالمقارنة مع الأقاليم الأخرى التي تشكل المملكة المتحدة. وأظهر استطلاع أجراه معهد "إيبوس موري" أخيراً أن 64 بالمائة من الاسكتلنديين يؤيديون "البقاء" مقابل 36% يفضّلون الخروج. ويؤيد إقليم أيرلندا الشمالية بغالبية سكانه البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. ولم تفصح استطلاعات الرأي عن موقف واضح لسكان إقليم ويلز، الذي يبدو أقل ميلاً للخروج من أوروبا، ولكنه أكثر ميلاً لهذا الخيار من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس عن أستاذ الجغرافيا في جامعة شيفيلد، تشارلز باتي.
حملات "التخويف" و"الكراهية"
منذ انطلاق الحملات الدعائية رسمياً في منتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي، اتسم خطاب المعسكرين، المؤيد والمعارض لبقاء بريطانيا في أوروبا، بـ"السلبية" المُنفّرة. واعتمدت حملة "البقاء" خطاب "التخويف" و"التفزيع" من مخاطر "الخروج". وقد بلغ الأمر بكاميرون حد القول إن خروج بلاده من الاتحاد سيهدد السلام في القارة العجوز، معتبراً أن التصويت لصالح الخروج يمثل عملاً "طائشاً وغير مسؤول"، وسيشكل خطراً على استقرار الاقتصاد البريطاني ما سيجعله "أفقر بشكل دائم". ويواصل كاميرون ترويج منطق "التخويف" واللعب على مشاعر الناخبين بالتركيز على الأمن السياسي والاقتصادي كمحفزات لثني مواطنيه عن التصويت لمصلحة الخروج في الاستفتاء. ووصل خطاب "التخويف" مبالغة غير مسبوقة عندما زعم كاميرون أن "خروج بريطانيا قد يُؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة"، مُلوحاً بالتحديات والتهديدات التي يطرحها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وروسيا، وأزمة اللاجئين.
خطاب "التخويف" الذي ساد حملات معسكر "البقاء"، يقابله خطاب "الكراهية" في حملة "الخروج"، إذ يوظف القائمون على الحملة ومن خلفهم اليمينيون الشعبويون، تفاقم أزمة اللاجئين والمهاجرين باعتبارها المشكلة الأخطر التي تواجه المجتمع البريطاني. ويزعم هؤلاء أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي السبب في تدفق المهاجرين إليها، ما أثر سلبياً على مستوى المعيشة، وعلى مستوى الخدمات العامة، لا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات. وتوظف الحملات اليمينية المتطرفة فزاعة "الإسلاموفوبيا" لتخويف الناس، زاعمة بأن بقاء بريطانيا في اتحاد سيضم قريباً تركيا وألبانيا، وسكانهما الـ90 مليوناً، سيعني تدفق المزيد من المسلمين إلى بريطانيا.
تجدر الإشارة إلى أن المؤهلين للتصويت في الاستفتاء هم مواطنو المملكة المتحدة ومواطنو دول الكومنولث الذين بلغوا الـ18 عاماً ويقيمون في المملكة المتحدة. كما يحق للمواطنين البريطانيين الذين يعيشون في الخارج لفترة أقل من 15 عاماً التصويت في الاستفتاء البريطاني اليوم.