آلاف هم السوريون الذين أُخفوا قسرياً منذ بداية الثورة بالبلاد في عام 2011، أمّا عائلاتهم فتتألم وتعيش على أمل الحصول على أيّ معلومة من شأنها أن تثلج قلوب أفرادها. وثمّة تقارير حقوقية كثيرة صدرت في خلال الأعوام الثمانية الماضية تتناول هذا الملفّ الحسّاس الذي لم ينجح أحد في إيجاد حلّ له.
وتكثر في سورية قصص الاختفاء القسري التي يخبرها الأهل والتي تتشابه في حجم المعاناة وإن اختلفت في تفاصيلها، منها قصّة الشابَين الشقيقَين عبد الله وإبراهيم قداح، من بلدة الهبيط الواقعة في ريف إدلب الجنوبي. هي قصّة "مزّقت عائلة بأكملها"، بحسب ما يؤكد أحمد، أحد أقرباء الشقيقَين. ويروي أحمد لـ"العربي الجديد"، أنّ "الشقيقَين اعتقلا وهما في طريق عودتهما من لبنان بعد أشهر من انطلاقة الثورة، كذلك الأمر بالنسبة إلى صديق لهما كان يرافقهما حينها"، مشيراً إلى أنّ "الشابَين كانا يعملان في لبنان ولم يشاركا بالتالي في أيّ نشاط ثوري". يضيف أحمد أنّ "والدهما، ويدعى خالد، راح يسأل ويبحث عنهما متنقّلاً بين الأفرع الأمنية، غير أنّه لم يتمكّن من معرفة مكان اعتقالهما ولا الفرع الأمني المسؤول عن ذلك. ثمّ راح يأتي بمحاولات جديدة عن طريق المال عساه يحصل ولو على معلومة عن ابنَيه، فأنفق نحو مليونَي ليرة سورية (نحو أربعة آلاف دولار أميركي) من دون أيّ فائدة. ولشدّة ألمه على فقدان ولدَيه، أصيب الوالد بجلطة وتوفي على أثرها. أمّا والدة الشابَين فما زالت بعد ثمانية أعوام تعيش على أمل سماع ولو خبر عنهما".
عمر فرجاني، من مدينة تدمر (وسط)، شاب آخر أُخفي قسرياً، علماً أنّه كان من أوائل ناشطي المدينة المنضمّين إلى الحراك الثوري. يخبر صديقه خالد الحمصي، عضو تنسيقية تدمر، "العربي الجديد"، بأنّه "اعتقل في 12 سبتمبر/ أيلول من عام 2011، عندما كان متوجّهاً نحو مستشفى مدينة تدمر برفقة زوجته التي كانت توشك أن تلِد. ألقى الأمن القبض عليه عند حاجز المستشفى". يضيف الحمصي أنّ "ظرف عمر الاستثنائي أرغمه على إسعاف زوجته غير مدرك العواقب، أمّا عناصر الأمن فتعاملوا معه كالوحوش حينها واعتقلوه على الفور. ومنذ ذلك الحين، لا يعلم أهله ما إذا كان على قيد الحياة أو أنه قُتل في المعتقل. كذلك لا يعلمون إلى أين اقتيد بعد اعتقاله". ويشير الحمصي إلى أنّ "زوجته، للأسف، قُتلت في العام الماضي بطريقة بشعة ومأساوية"، موضحاً أنّها "في خلال إقامتها بمدينة حمص تسلل عناصر من الشبيحة إلى منزلها وقتلوها وسرقوا مقتنياتها".
في السياق، يوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الشبكة وثّقت ما لا يقلّ عن إخفاء 98 ألفاً و279 شخصاً قسرياً على يد الأطراف الأساسية الفاعلة في سورية، في الفترة الممتدة ما بين مارس/ آذار 2011 ويوليو/ تموز 2019". ويفصّل أنّ "قوات النظام السوري مسؤولة عن إخفاء ما لا يقل عن 83 ألفاً و574 شخصاً، أي ما نسبته 85.04 في المائة من مجموع بيانات الشبكة حول ضحايا الإخفاء القسري في سورية، من بينهم 1722 طفلاً و4938 امرأة".
وعن تجاهل المجتمع الدولي لهذه القضية الحساسة، يقول عبد الغني إنّ "أولى قرارات مجلس الأمن حول سورية أشارت إلى قضية الاعتقال السياسي والإخفاء القسري، عبر القرارَين رقم 2041 و2042 الصادرَين في إبريل/ نيسان 2012، في حين شدّد القرار رقم 2139 في فبراير/ شباط 2014 على وقف فوري لممارسات الإخفاء القسري مديناً ممارستها بعبارات صارخة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البند 12 في القرار رقم 2254 الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2015. لكنّنا نؤكّد أنّ تلك القرارات كلّها بقيت مجرّد حبر على ورق ولم تنجح في كشف مصير شخص واحد مخفي قسرياً أو مفقود، ولا في الإفراج عن معتقلي رأيٍ أو سياسيين أو نساء أو أطفال".
يضيف عبد الغني أنّه "نظراً إلى أهمية وحيوية الموضوع بالنسبة إلى عدد كبيرة جداً من السوريين، فقد طُرحت قضية المعتقلين في مسار مفاوضات جنيف، خصوصاً في الجولات الأولى، من قبل منظمات وأفراد في المجتمع المدني. صحيح أنّ الإنجاز كان شبه معدوم، غير أنّ القضية كانت حاضرة في سياق النقاشات وعلى جدول الأعمال. لكنّ الجولات الثلاث الأخيرة خلت تقريباً من مجرّد ذكر أو نقاش لهذا الملف الحساس". ويتابع عبد الغني: "ونحن في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، من خلال حضورنا جولات في جنيف بصفة استشارية أو في غرفة المجتمع المدني، لمسنا تغييباً مقصوداً لهذا الملف، بذريعة تعقيده وأنّه قد يعطّل تقدّم العملية السياسية. وقد أكّدنا مراراً في تقارير وبيانات عدّة أنّ مفتاح التّقدّم في العملية السياسية وإظهار انفراج وتقارب إنّما يبدأ ويكون بالكشف عن مصير المخفيّين قسرياً والمفقودين".
ويكمل عبد الغني: "لاحظنا أنّ النظام السوري تحدّى قرارات مجلس الأمن وخرقها في تجاهل كامل للمجتمع الدولي ولنتائج اجتماعات وفود التفاوض، لذلك نوصي دائماً بالضغط على النظام وبوجوب تشكيل لجنة خاصة حيادية لمراقبة حالات الإخفاء القسري، بالإضافة إلى المضيّ قدماً في عملية الكشف عن مصير المخفيين، والبدء الفوري في الضغط على الأطراف كلها من أجل الكشف الفوري عن سجلات المعتقلين لديها وفق جدول زمني محدّد. كذلك نؤكّد في الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّه لا بدّ من التصريح الفوري عن أماكن احتجاز الأشخاص المعنيين والسماح للمنظمات الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارتهم مباشرة".
ويؤكّد عبد الغني: "وقد سجّلنا في الشبكة ارتكاب النظام السوري سلسلة متواصلة من الجرائم ومن إهانة الكرامة الإنسانية، بدءاً من الاعتقال من دون أيّ مذكرات توقيف ومن دون أن يكون للمعتقل قدرة على تكليف محام وفي ظروف احتجاز بالغة الوحشية تعرّض خلالها المعتقلون إلى التعذيب، علماً أنّ 85 في المائة منهم تحوّلوا إلى مخفيين قسرياً. ثمّ يأتي إبلاغ العائلات عن الوفيات، إذا حصل، من دون تسليم جثة أو رفات أو وجود مقبرة". ويتابع: "من وجهة نظرنا، فإنَّ الكشف الأخير عن مصير مخفيين قسرياً يُعَدّ دليلاً يدين النظام السوري الذي لطالما أنكر وجود مخفيين قسرياً لديه. كيف تمكّن من معرفة مصير تلك الحالات البالغ عددها 836؟". ويشدّد عبد الغني على أنّ "جريمتَي الإخفاء القسري والتعذيب اللتَين ارتكبتا في مراكز الاحتجاز ترتقيان لتكونا من الجرائم ضد الإنسانية ولا تسقط بالتقادم"، مؤكّداً "سعي الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى متابعة هذا الملف. فهي شاركت وتشارك في فعاليات دولية عدّة شملت لقاءات مختلفة في هذا الخصوص مع مسؤولين في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وفرنسا وسويسرا، لا سيّما أنّ ملف المخفيين قسرياً والمعتقلين في سورية يُعَدّ من الملفات التي يحاول نظام الأسد طمسها على الدوام".