27 أكتوبر 2024
ثورة القرنفل
مرّت، في 25 نيسان / إبريل الماضي، الذكرى الخامسة والأربعون لثورة القرنفل في البرتغال، والتي أطاحت دكتاتورية هيمنت على البلاد نصف قرن، قادتها طغمة عسكرية/ أمنية، لطالما دعمتها الفاشية الإسبانية في عهد الجنرال فرانكو، كما ساندتها مواربةً الولايات المتحدة الأميركية، في إطار ما تعرف بمواجهة المد الشيوعي، والذي ازدهر بشدة أيضاً في دول أميركا الوسطى والجنوبية حينذاك.
قام بالثورة الجيش الوطني البرتغالي المتشبع بالأفكار التحرّرية اليسارية. وقد اضطر، على الرغم من ميله بداية إلى الحكم لفترة وسيطة، لتسليم الحكم الى المدنيين، في اتفاق مبرم وتوافق تأسيسي تم بين الحزبين، الشيوعي والاشتراكي، حيث كان العسكريون أقرب إلى الشيوعيين عقيدةً.
ومنذ بداية الربيع العربي، يُتابع المتخصصون في التحولات الديمقراطية الحديث عن التجربتين، البرتغالية والإسبانية، بشكل أساسي، نموذجين يُقتدى بهما للمنطقة العربية، لما للقرب الجغرافي من تأثير كما لما لطبيعة الأنظمة الحاكمة من تشابه. والقياس أجدى مع هاتين التجربتين منه مع تجربة أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، حيث معايير التغيير السياسي، كما الانتقال الديمقراطي، مختلفة، فلا الأنظمة التي حكمت تلك البلدان شبيهة بمن حكم وطغى وتجبر على الشعوب العربية ولم يزل، ولا التجربة السياسية، حتى في أعتى زمن الهيمنة السوفييتية، قابلة للمطابقة، من خلال بُعدي الفساد المستحكم، والقمع الدموي الممنهج الذي تتميّز به الأنظمة العربية.
لثورة القرنفل بعد آخر أساسي، يتمثل في أنها حرّضت من بعدها تحوّلات مصيرية في القارة
الأوروبية، كما في اليونان، بعد عدة أشهر في يوليو/ تموز 1974، وفي إسبانيا بعد خمس سنوات في 1977. كما أن ثورة القرنفل كانت مؤشراً تحفيزياً، ولو بطريقة غير مباشرة، لتغيرات ديمقراطية عدة في دول أميركا اللاتينية في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته. ثم تتالت التحولات الديمقراطية في أوروبا فيما عُرفت بمرحلة انهيار المعسكر السوفييتي، وكان انهيار جدار برلين سنة 1989 أحد أهم دلائله الرمزية.
أنهت الثورة البرتغالية حياة آخر القوى الاستعمارية في لبوسها التقليدي. وحوّلت بلداً مُستَعْمِراً فقيراً بطريركياً إلى ديمقراطية حديثة. وحسب تقديرات عالم السياسة الأميركي، لاري ديامونز، في سنة 1974، عدد الدول الديمقراطية، في مختلف أشكالها وفي نسبية تطبيقاتها، لا يتجاوز 30%، ليصير سنة 2016 أقرب إلى 60%. في المقابل، ومنذ سنة 2000، فقدت أكثر من 25 دولة نظامها الديمقراطي الليبرالي، أو أنها تواجه صعوبات جمة للمحافظة عليه، في ظل تنامي التوجهات السياسية الشعبوية والمتطرفة وتطورها في بلدان عديدة. وبالتالي، يمكن أن نستنتج أن موجة الدمقرطة تليها غالباً فترة غير محدّدة لتراجع العملية الديمقراطية، أو لتثاقل مسارها. كما أن هذه الفترة تشهد نمو أنواع جديدة من التسلطية، تسعى من خلالها الأحزاب القومية ـ الشعبوية إلى تفكيك الديمقراطيات الليبرالية.
هذا العام، هناك ما هو جديد في الطريقة التي نُحيي بها ذكرى "ثورة 25 نيسان"، فالسعي من أجل الديمقراطية هو في خضم معيشة الشعوب العربية التي تشهد صراعاتٍ مكشوفة، دموية غالباً، مع مستبدّيها. وهي شعوب، من مشرقها إلى مغربها، تعبر في تجارب قاسية وثورات مجهضة أو مسروقة أو ثورات مضادّة، وتُحرَمُ من حريتها في توافق مدهش بين ساستها المستبدين وساسة العالم الحر الذين يعتبرون أنها غير مهيأة لهذا الترف الديمقراطي، فيدعمون طغاتها، سعياً وراء استقرار موهوم، وظناً بأن هذا الحلف الشيطاني سيواجه إرهاباً لا يفعل إلا أن يؤجّج أسبابه وأدواته.
أما في الغرب "الديمقراطي"، فيبدو أن النضال من أجل الديمقراطية ليس أمراً من الماضي،
يمكن تأريخ نهايته مع التحولات الجذرية في جنوب أوروبا، كما في أوروبا الوسطى والشرقية. كما يبدو من الصراعات السياسية المتجددة والمتفجرة، في أكثر من عنوان في تلكم الدول، أن المسألة الديمقراطية في خطر، أو أن هناك حاجة ماسّة لإعادة التفكير بمفهوم الديمقراطية ذاته.
المسارات الديمقراطية هي في قلب الجدال الدولي القائم منذ 45 عاما، وفي مختلف بقاع العالم. والعودة إلى استرجاع تفاصيل التحول الديمقراطي في البرتغال، على سبيل المثال، تُساعد في الاستفادة من دروس تأسيسية في عملية التحول الديمقراطي، وإسقاط نجاحاتها، كما هناتها، على ما يناسب البحث فيه في أيامنا هذه. ويتمحور هذا خصوصاً فيما يتعلق بمسألةٍ رئيسيةٍ ترتبط بالتوفيق بين الحرية والعدالة الاجتماعية، أي الحقوق الأساسية التي تصونها الديمقراطيات الليبرالية مع المكتسبات الاجتماعية التي فرضتها نضالات العمال في نهاية القرن التاسع عشر. وكما يقول الباحث البرتغالي الصديق ألفارو فاسكونزولوس، موافقة فولتير مع ماركس.
انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، كما جايير بولسونارو في البرازيل، وكثير سواهما من يمين التطرّف في الغرب، نماذج عن الانتحار الذي يسببه الخوف لدى بعض أفراد الطبقات الوسطى من المستقبل. في حين أن مئات الآلاف من الشباب الجزائري والسوداني يتظاهرون سلمياً، مطالبين بانتخابات ديمقراطية، ومظهرين تمسكهم بالحرية وبالكرامة، ما يدل على أن رائحة القرنفل الديمقراطية ما زالت منتعشة.
قام بالثورة الجيش الوطني البرتغالي المتشبع بالأفكار التحرّرية اليسارية. وقد اضطر، على الرغم من ميله بداية إلى الحكم لفترة وسيطة، لتسليم الحكم الى المدنيين، في اتفاق مبرم وتوافق تأسيسي تم بين الحزبين، الشيوعي والاشتراكي، حيث كان العسكريون أقرب إلى الشيوعيين عقيدةً.
ومنذ بداية الربيع العربي، يُتابع المتخصصون في التحولات الديمقراطية الحديث عن التجربتين، البرتغالية والإسبانية، بشكل أساسي، نموذجين يُقتدى بهما للمنطقة العربية، لما للقرب الجغرافي من تأثير كما لما لطبيعة الأنظمة الحاكمة من تشابه. والقياس أجدى مع هاتين التجربتين منه مع تجربة أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، حيث معايير التغيير السياسي، كما الانتقال الديمقراطي، مختلفة، فلا الأنظمة التي حكمت تلك البلدان شبيهة بمن حكم وطغى وتجبر على الشعوب العربية ولم يزل، ولا التجربة السياسية، حتى في أعتى زمن الهيمنة السوفييتية، قابلة للمطابقة، من خلال بُعدي الفساد المستحكم، والقمع الدموي الممنهج الذي تتميّز به الأنظمة العربية.
لثورة القرنفل بعد آخر أساسي، يتمثل في أنها حرّضت من بعدها تحوّلات مصيرية في القارة
أنهت الثورة البرتغالية حياة آخر القوى الاستعمارية في لبوسها التقليدي. وحوّلت بلداً مُستَعْمِراً فقيراً بطريركياً إلى ديمقراطية حديثة. وحسب تقديرات عالم السياسة الأميركي، لاري ديامونز، في سنة 1974، عدد الدول الديمقراطية، في مختلف أشكالها وفي نسبية تطبيقاتها، لا يتجاوز 30%، ليصير سنة 2016 أقرب إلى 60%. في المقابل، ومنذ سنة 2000، فقدت أكثر من 25 دولة نظامها الديمقراطي الليبرالي، أو أنها تواجه صعوبات جمة للمحافظة عليه، في ظل تنامي التوجهات السياسية الشعبوية والمتطرفة وتطورها في بلدان عديدة. وبالتالي، يمكن أن نستنتج أن موجة الدمقرطة تليها غالباً فترة غير محدّدة لتراجع العملية الديمقراطية، أو لتثاقل مسارها. كما أن هذه الفترة تشهد نمو أنواع جديدة من التسلطية، تسعى من خلالها الأحزاب القومية ـ الشعبوية إلى تفكيك الديمقراطيات الليبرالية.
هذا العام، هناك ما هو جديد في الطريقة التي نُحيي بها ذكرى "ثورة 25 نيسان"، فالسعي من أجل الديمقراطية هو في خضم معيشة الشعوب العربية التي تشهد صراعاتٍ مكشوفة، دموية غالباً، مع مستبدّيها. وهي شعوب، من مشرقها إلى مغربها، تعبر في تجارب قاسية وثورات مجهضة أو مسروقة أو ثورات مضادّة، وتُحرَمُ من حريتها في توافق مدهش بين ساستها المستبدين وساسة العالم الحر الذين يعتبرون أنها غير مهيأة لهذا الترف الديمقراطي، فيدعمون طغاتها، سعياً وراء استقرار موهوم، وظناً بأن هذا الحلف الشيطاني سيواجه إرهاباً لا يفعل إلا أن يؤجّج أسبابه وأدواته.
أما في الغرب "الديمقراطي"، فيبدو أن النضال من أجل الديمقراطية ليس أمراً من الماضي،
المسارات الديمقراطية هي في قلب الجدال الدولي القائم منذ 45 عاما، وفي مختلف بقاع العالم. والعودة إلى استرجاع تفاصيل التحول الديمقراطي في البرتغال، على سبيل المثال، تُساعد في الاستفادة من دروس تأسيسية في عملية التحول الديمقراطي، وإسقاط نجاحاتها، كما هناتها، على ما يناسب البحث فيه في أيامنا هذه. ويتمحور هذا خصوصاً فيما يتعلق بمسألةٍ رئيسيةٍ ترتبط بالتوفيق بين الحرية والعدالة الاجتماعية، أي الحقوق الأساسية التي تصونها الديمقراطيات الليبرالية مع المكتسبات الاجتماعية التي فرضتها نضالات العمال في نهاية القرن التاسع عشر. وكما يقول الباحث البرتغالي الصديق ألفارو فاسكونزولوس، موافقة فولتير مع ماركس.
انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، كما جايير بولسونارو في البرازيل، وكثير سواهما من يمين التطرّف في الغرب، نماذج عن الانتحار الذي يسببه الخوف لدى بعض أفراد الطبقات الوسطى من المستقبل. في حين أن مئات الآلاف من الشباب الجزائري والسوداني يتظاهرون سلمياً، مطالبين بانتخابات ديمقراطية، ومظهرين تمسكهم بالحرية وبالكرامة، ما يدل على أن رائحة القرنفل الديمقراطية ما زالت منتعشة.