ثورة جياع تقترب في سورية

22 أكتوبر 2014

الخبز لم يسلم من قصف النظام حلب (17ديسمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

ثورة الجياع غير ثورة الكرامة. هذه حقيقة يجب الالتفات إليها. قبل نحو أربع سنوات، انتفض الشعب السوري لكرامته، قبل كل شيء، كانت الشعارات التي رفعتها حشود المتظاهرين تنادي للحرية. هل ننسى شعار: الله سورية، حرية وبس؟ وكان الرد الباكر من النظام على لسان المتحدثة باسم الرئاسة، بثينة شعبان، أن أعلنت عن زيادة في الرواتب، زيادة تافهة، قياساً بمستوى الرواتب والأجور، وحتى بنسبتها إليها. لم يكن الشعب قد خرج إلى الشوارع، من أجل لقمة العيش، فعلى الرغم من القلة وتدني المستوى المعيشي لغالبية الشعب السوري، لم يكن الفقر في سورية يحمل أنياباً، لم يكن يعضّ، لكنه كان يؤجج مشاعر الهوان، ويزيد في إضرام نيران الإحساس بالظلم وهدر الكرامة، عندما كان المواطن يرى ويلمس كل يوم ازدياد البون بينه وبين شريحة من الأثرياء، يزداد ثراؤها ويزداد فجورها في الوقت نفسه، فرأس المال الذي نما بسرعة قياسية، وتبرعم مثل فطور فوق مستنقعات من الفساد، كان وثيق الصلة بالسلطة، وكان يعرف كيف يعقد التحالفات مع أركان النظام. رؤوس أموال تتكدس على حساب كرامة الشعب، قبل لقمته.

لكن، الوضع تغير الآن. الآن، ليست سورية تلك التي كانت قبل سنوات أربع. سورية نفسها يعضها الجوع، تنهشها أنياب الفاقة، تقطّع أوصالها سيوف الجحود والكفر، تحرق زيتونها براميل غبية، تشعل غلالها صواريخ حاقدة. سورية لم يعد أمام أبنائها خيار سوى الالتحاق بفيالق الحرب، من يبايع داعش، ومن يلتحق بكتائب النظام، يهددهما، ويهدّهما الجوع وانسداد الأفق.

سورية تجوع بمن بقي فيها ينتظر موته، ومن غادرها إلى مخيمات الحاجة والإذلال. قبل أربع سنوات، كان مرتب الموظف الحكومي من الدرجة الأولى، يعني في أعلى سلم الرواتب والأجور، بعد ثلاثين سنة من الخدمة بين 800 وألف دولار. صار، اليوم، يعادل 250 دولاراً تقريباً، هذا بعد 30 عاماً من الكدّ والتعب والجهد. صار الرغيف هو ما يسد الرمق، وغلا ثمنه. الزيتون والزيت والسمن والسكر والأرز والقمح والحبوب والبقول والشاي، هذه المواد عناصر المؤونة المنزلية ومفردات العيش للمواطن السوري العادي، صارت تكوي مرتين، مرة بالمغامرة بشرائها، ومرة بالحلم المستحيل بها. الأرض السورية الخيّرة استبيحت، فلم تعد تنبت فيها الحياة إلاّ بمقدار، الخضر والفواكه جميعها جُنّت دفعة واحدة، حياة عاقر يعيشها المواطن السوري، وفوق هذا، يقع بين أيدي تجار الحروب والأزمات، حتى السلل الغذائية التي توزع على النازحين تباع في السوق السوداء.

سورية الخيّرة التي كان الناس يشترون فيها الخضر والفواكه الموسمية من سوق الخضر بالصناديق، صار بائعوها، اليوم، يستخدمون الموازين الرقمية التي تقارب دقتها موازين الذهب، وصار المواطن يحسب كم لقمةً، يمكنه أن يقدم لكل ولد من أولاده من هذه المادة، أو تلك، ويحسب ثمنها، ثم يطلب من البائع أن يكيل بالمال وليس بالوزن. أعطني بـ 200 ليرة بامية. فكيلو البامية الخضراء في موسمها بخمسمائة.

لم يكن منظر النباشين غريباً فيما مضى. لكن، الغريب أنهم ينبشون، اليوم، ليأكلوا بينما كانوا يجمعون الخردوات فيما مضى. بلى، في سورية رأيت أطفالاً وكباراً ينبشون في الحاويات، ويستخرجون أشياء يضعونها بلهفة في أفواههم ويلتهمون. في سورية، يسرح الشحاذون في الشوارع من كل الفئات العمرية، يطلبون ثمن رغيف، الطفل يقول لك: أنا جوعان، أعطيني حق سندويشة. هذه هي سورية المدمرة الجائعة التي تكالبت عليها كل القوى الطامعة، ودفعت بزبانية الموت إليها. سورية المستباحة التي اشتغل عليها الإعلام، الموجه على مدى أربع سنوات، ليفتت المجتمع، ويؤجج الضغينة والثأرية والغرائز، تجوع بينما العالم بأنظمة قوته يتحالف لمحاربة بدعة وحشيةٍ، صنعوها ودججوها بعقائد الموت، وموّلوها من موارد لا تنضب، ويتحالفون ليدفعوا المليارات في حربهم الخلبية، بينما الشعب يجوع.

إذا لم يبق مجتمع على ماذا تراهنون؟ من سيبني دولة ومؤسسات؟ من سيحمي مفهوم الوطن والمواطنة؟

واربتم الحقيقة، وكنتم أكثر الناس اطلاعا عليها، أشحتم بوجوهكم عن الفئة المارقة التي تسللت، باكراً، إلى صفوف الشعب، حتى استفحلت واستفشرت، وصارت الخطر الأكبر على الإنسان وحقوقه في هذا الوطن. نسيتم أن شعاراتكم هي الحرية، وأنتم تعرفون أنها فاشية دينية، خطرها أكبر من كل الفاشيات، وأنها عدوة الحرية. تركتم هذا الغول يكبر، ويزداد تغوّله على حياة الشعب، اجتمعتم ونصّبتم أنفسكم أوصياء عليه، وانفصلتم عن الواقع، والشعب يُطحن ويعجن ويخبز، بأيد تتناوب عليه. لم تلعبوا سياسة، موالاة ومعارضة. لعبتم بالشعب وبمقادير الناس وأرواحهم وحيواتهم، لعبتم بأرض الوطن، ومؤسسات الدولة التي هي ملك للشعب، حتى لو كان من يديرها نظام تفرد في الاستبداد، حتى ثار الشعب عليه.

ها هو الشعب يتمزق ويتبدد في بقاع الأرض، ومن بقي يعود إلى الوراء، يمشي بعكس التاريخ، ينكص نحو بريته، يقترب شيئاً فشيئاً من غريزيته. الشعب يجوع، والجوع كافر، بل "أبو الكفار". ثورة الجياع شيء آخر غير الثورات الأخرى، قد تبدو ثوراتنا، بكل ما حصدت، مترفة تجاه ثورة جوع.

قليلون من توقفوا لحظةً، من أجل أن يتأملوا الأحداث، ويقرأوها ويرصدوا أخطاءهم. أغلبهم ماضون في قصورهم وتعنتهم، ومنهم في غيهم، وبعضهم في انبطاحهم لأرباب مصالحهم، ومن يدفعون لهم.

ثورة بلا غطاء فكري، أو برنامج، أو خارطة طريق، كان لا بد لها أن تتشتت، وأن تنزلق إلى مزالق خطيرة، مثل الذي حدث ويحدث في سورية. تُرك الشعب ليكون حقل تجارب، وتتلقفه المصالح العمياء التي لا ترى غير أنانيتها، وتبث أفكارها، وتؤدلج بما يخدم هذه المصالح، ليكون الشعب أداة في سياساتها. أصيب المجتمع السوري في بنيته، بدلاً من أن تُقدم له أسباب المناعة، لكي يتخلص من أمراضه الموروثة، قدمت له السموم ليدخل في نوبات من الهستيريا الجماعية والحقد والثأرية. الثأر من أي شيء، من الآخر، من الأرض، من الدولة، من الحاضر، من المستقبل، كله تحت شعار مضلل: الشعب يريد إسقاط النظام. كل مواطن استفاق وعيه كان يريد إسقاط النظام. لكن، ما الذي قدمتموه لكي يسقط النظام؟ وهل النظام يتركز في شخص وحيد، أم إنه مجموعة من الأنظمة المتشابكة، المحبوكة بعضها ببعض، على مر عقود من الاستبداد؟ آن لكم أن تراجعوا أنفسكم، وتعترفوا بأخطائكم التي ساهمت بمسؤولية كبيرة في دفع البلاد إلى ما هي عليه، أن تقتنعوا، كما كتب الكاتب خطيب بدلة، في مقالته في (العربي الجديد) يوم الأحد 12/10/2014:

"وأما أنا، فقد وصلت إلى قناعةٍ مفادها أن أكبر خطأ ارتكبناه، نحن الثوار السوريين، هو إضاعة الوقت في الحديث عن إسقاط النظام، ولم نكلف خاطرنا بمناقشة المسائل الأساسية الكبرى التي تعطي للثورة ملامحها، وترسم شخصيتها، وتوصلها إلى إسقاط النظام فعلاً، وهي المتعلقة بدستور الدولة المقبلة، بعَلمها، باسمها، بمصادر التشريع فيها، وبكل آليات تداول السلطة فيها".

بعد انهيار المجتمع، وتردي الوعي إلى الدرك الأخير، واستلاب الجوع للأجساد والنفوس، وتهديده حياة المواطنين السوريين، لن يكون هناك مفر من انتقام الجائعين، لن يكون مفر من هياج غريزتهم بأعتى صورها وممارساتها. ثورة الجياع أوشكت أن تندلع، فمن يغيثك أيها الوطن المذبوح؟