جودت بك وأولاده.. ستبقون غرباء

05 ديسمبر 2014
(تصوير: تورستين سيلز)
+ الخط -

لِمَ نحن في الحالة التي نحن فيها؟ إنه السؤال الذي تطرحه معظم شخصيات رواية الكاتب التركي أورهان باموك الأولى، "جودت بك وأولاده"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن "دار غاليمار" الباريسية. ونقول "أخيراً" لأن هذا العمل الضخم (750 صفحة) هو الوحيد الذي لم يُنقَل إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، إثر نيل صاحبه جائزة نوبل عام 2006، رغم تضمّنه معظم الموضوعات التي سيقاربها باموك في رواياته اللاحقة.

لِمَ نحن في الحالة التي نحن فيها؟ تساؤل يطرحه الكاتب بطُرُق مختلفة على طول الرواية للتعبير عن ضيق شخصياته من كونها تركية، وبالتالي عن توقها إلى "نموذج" حياة آخر، أوروبي، يظهر في النهاية كهدفٍ يتعذّر بلوغه، حتى للنخبة منها.

سعيد بك، مثلاً، وهو ابن باشا، سيصيح عند نهاية عشاء دعا إليه بعض أصدقائه: "لم أعد أطيق تمالُك نفسي، كي أكون مثلهم، ولا أفعل ما يحلو لي. هذا المساء، سأسترخي. لن أجلس كما يجب، وسأرفع صوتي!". وسيكشف أنه، خلال سفره إلى باريس، فوجئ بامرأة وقد سمّت كلبها "باشا"، فسمّى كلبه "كونت". وما يعزّز هذا التمزّق هو الحضور الكلّي للمثال الغربي. وهو ما سيدفع مهندساً شاباً إلى التعبير عن غيظه من ذلك، بقوله: "لم أعد أحتمل. في المدرسة كانوا يقولون لنا: إنهم أفضل. في المنزل، كانوا يقولون لنا: إنهم أفضل. كنّا نراهم في كل مكان، في الأفلام، في المجلات...".

"جودت بك وأولاده" رواية عائلية تبدأ في مطلع القرن العشرين وتنتهي عشية انقلاب في السبعينيات. ثلاثة أجيال تعبر أمامنا، ومع ذلك تبقى هذه الرواية سيكولوجية أكثر منها تاريخية؛ لأن الأحداث بالكاد تتدخل في قدر شخصياتها الرئيسية. وبالتالي، تشكّل الهوية، أكثر من التاريخ، محور هذا النص السردي الطويل.

الوالد، جودت بك، حقق طموحه في أن يصبح تاجراً ثرياً. تجرّأ على ممارسة التجارة رغم أنه ليس يونانياً أو أرمينياً، واستطاع بفضل نجاحه في عمله الزواج من ابنة باشا. لكن سذاجة هذا الرجل، الذي أراد تأسيس عائلة كتلك التي قرأ عنها في كتاب اللغة الفرنسية أثناء الدراسة، لن تحول دون شعوره بالعزلة. فأولاده لن يلبّوا توقّعاته، وتقدّمه في السن سيبعده تدريجياً عن عالم الأعمال.

أوروبا وتركيا تبدوان نقيضَين في هذا العمل. مهندس ألماني، يعمل في تركيا، يؤكّد: "جميعنا غير مهيّأ للبلد الذي يعيش فيه. ما إن يسكنكم الشيطان، ما إن تلمس أنوار العقل روحكم، حتى تصبحوا غرباء. ومهما فعلتم، ستبقون غرباء". الرواية هي التمثيل الدقيق والمنهجي لهذا القول.

رفيق، أحد أبناء جودت، مثلاً، يستنتج لدى قراءته هولدرلين: "لماذا نفتقر إلى الفلسفة في تركيا؟ هذا أيضاً ضروري... هنا الأمر يتعلّق بالعقل. في أثينا، كان العقل أساس كل شيء... لا شيء مشابهاً في تركيا". وبسرعة، يشعر رفيق بفراغ كبير في حياته يُفقده توازنه، كما يشعر بأن عمله وعائلته يشكّلان عبئاً عليه. يتخيّل إصلاحات لبلده لكنه لا يملك القدرة على دفع مجتمعه إلى تبنّيها، علماً أنه يعارض اللجوء إلى القوة: "أن يُجبر مجتمع أبناءه على تبنّي الحداثة والتقدّم بالقوة، أليس خطأ؟ أمثلة الجديد المجلوب إلى الشعب بالإكراه كثيرة في تاريخنا، لكن لماذا الدفاع عن ذلك اليوم؟".

عمر، صديق رفيق، يرى نفسه "فاتحاً": "تعلّمتُ كثيراً من أوروبا. لستُ قادراً أبداً على أن أكون شخصاً مثل سائر الناس هنا. في أوروبا، تعلّمتُ أنني أملك حياةً، وأن هذه الحياة قصيرة". لكنه ييأس بسرعة، بدوره، مستنتجاً أن البلد يتعذّر إصلاحه: "هنا، في تركيا، لا يمكننا أن نصدّق بشيء. [...] إما نؤمن بالخالق مثل الجميع، وإما لا نؤمن بشيء. لأن كل شيء زائف. كل شيء مجرّد تقليد نشتمّ فيه الكذب، الخبث، الغش".

تتغلغل الذهنية الأوروبية داخل المجتمع التركي بواسطة الفردية. عثمان، شقيق رفيق الأكبر، لا يحتمل حياته إلا بفضل عشيقته، وحين يفكّر بزوجته، يقول لنفسه: "لم يعد أحد مع أحد، وهذا ليس خطئي!".

رفيق يبتعد عن عائلته، عمر غير قادر على تأسيس عائلة ويتغيب عن حفل زفافه. وحتى الوالدة العجوز يصل بها الأمر إلى حد التساؤل: "لِمَ أصبحنا هكذا؟ [...] لمَ ينسحب كل منا داخل عالمه الخاص؟". وبالتالي، تستحضر الرواية باستمرار الخيبة من الذات، التي تظهر في السلوك اليومي عبر الخوف من الخطوات الناقصة والتصرفات الرعناء أو المثيرة للسخرية.

ويبلغ خزي الشخصيات من نفسها حداً يمنع عثمان، مثلاً، من دعوة غريبٍ إلى المنزل كي لا يلاحظ السلوك الشرقي المقولب لأفراد عائلته. أما الامتثالية فستدفع عايشة، الشقيقة الصغيرة، إلى استبدال حبيبها، الشاب المتمرّد والفقير، برمزي، ابن العائلة الثرية.

التشاؤم الذي يطغى على الرواية يشدّ من متنها. رفيق سيموت بالسرطان بعد أن يفشل في تمرير مشاريعه التي اعتُبرت طوباوية. عمر الطموح سينتهي معزولاً في إحدى القرى النائية، يلعب الشطرنج مع نفسه. أما النائب مختار بك فسيقول، بعد تبدُّد جميع آماله السياسية: "من أنا؟ إنسان بائس". هذا المناخ العام يوحي إلى القارئ بتساؤل حول البُعد التأريخي للرواية. هل كانت أجواء تلك الحقبة على النحو الذي يصوّره باموك؟ هل كان نمط الحياة التقليدي قد توارى إلى هذا الحد داخل الطبقة الميسورة؟ إحدى شخصيات الجيل الثالث في الرواية ستعبّر، لابن رفيق، عن دهشتها أمام حداثة والده.

حداثة تتجلى أيضاً في صعوبة تناقُل المكتسبات بين الأجيال. فحين يشعر جودت بك العجوز بعدم فائدته، يقرر كتابة مذكّراته لترك شهادة على مسيرته، لكنه يفشل في المضي بمشروعه إلى أبعد من العنوان. ويوميات رفيق لن تثير اهتمام ابنه. أما صديقه الشاعر العبثي، محيي الدين، فلا يرى، حين ينظر إلى صورة والده العسكري، سوى "جندي تافه، وحياة بلا قيمة"، ويسعى كي لا يشبهه، قبل أن يقع في أحضان القوميين ويتبنّى ذهنية مشبعة بالحقد على "الغرباء".

على مستوى الشكل، تتميّز الرواية بأسلوبها الكلاسيكي ولغتها السلسة وفصولها القصيرة ذات العناوين الموحية التي لا تخلو من الفكاهة: "الأذكياء والبلهاء"، "دائماً النقاشات المملّة نفسها"؛ بخلاف الخاتمة الطويلة لهذا النص السردي العميق الذي يستحضر، بتسلسله الهادئ والمتواصل، الزمن الذي يعبر من دون أن يتغيّر شيء في العمق.

تبقى إشارة إلى رابط غير متوقَّع يُنسَج بسرّية في الصفحات الأخيرة: أحمد، الرسام الشاب، يريد أن يرسم بورتريه لجدّه جودت بك، أن يمسك بأجواء تلك الحقبة، والصورة التي بحوزته لا تكفيه.. تماماً مثل أورهان باموك الذي كان يرغب، وهو شاب، في ممارسة فن الرسم، قبل أن يختار الكتابة.

المساهمون