حكاية كومبارس على خشبة مجلس الشعب

26 يوليو 2020
+ الخط -

تعرف سورية، منذ وصول أسرة الأسد إلى الحكم فيها سنة 1970، من ضمن أنواع مختلفة من الممارسات الأمنوقراطية، مسرحيةً رتيبةً تجري كل أربع سنوات، تتم خلال فصولها عملية انتخابات ما يسمى "مجلس الشعب". وعلى خشبة هذا المسرح، يتزاحم ممثلون فاشلون من أصحاب أدوار الكومبارس، ليحصلوا على رضى المخرج الأمني الذي يحدّد مساحة دور كل منهم، ويعطي إيعازات الدخول والخروج على الخشبة. كما يوعز رتيبٌ صغيرٌ في مفرزة المجلس، وهي الممثلية الأعم انتشاراً في مختلف دوائر "الدولة" السورية، بالأوامر المتعلقة بعملية التسيير إلى رئيسه أو رئيسته، وهو أو هي من ضمن الممثلين الكومبارس أيضاً، ولكنهم يعتقدون أنهم يلعبون أدواراً أكثر أهميةً من بقية الجوقة.

سبق لشعب هذا البلد، غير المؤهل للديمقراطية، حسب القائمين على استبداده، ومن يؤيدهم شرقا وغرباً، سرّاً أو علانيةً، أن عرف تجارب برلمانية حقيقية. وهي، وإن لم تدُم إلا حقباً قصيرة ومتقطعة، ولكنها في المقابل ذخرت بالدروس وبالعبر. وصارت العودة إليها من وقت إلى آخر تدخل ضمن النوستالجيا السياسية التي تُخفف استعادتها من وطء القحط السياسي والمدني السائد. وكثيرا ما يستعيد السوريون، من خلال وقوفهم على هذه الأطلال، قصصاً وحكاياتٍ جرت في قاعات المجلس، أو في أروقته، وحتى في مقهاه الذي كانت تُبنى فيه التحالفات وتنهار. وإن رجع المهتمون إلى أرشيف جلسات المجلس، وبالتأكيد ليس الممثلون الكومبارس الذين يملأونها اليوم، لوقعوا على محاضر جلسات لنقاش قوانين وتعيينات تُنافس في حرية خطابها ما تعرفه قاعات المجالس النيابية في الدول ذات التجربة الديمقراطية العريقة.

عرفت سورية، نسبياً، معنى التمثيل النيابي الحقيقي إبّان حقبة الانتداب الفرنسي

وبعيداً عن الوقوع في إثم "الحنين" السياسي إلى ممارسات المحتل/ المنتدب الفرنسي على سورية، سيقرُّ المتابع الموضوعي بأن البلاد عرفت، وإن بشكل نسبي، معنى هذا التمثيل النيابي الحقيقي إبّان حقبة الانتداب الفرنسي من 1920 إلى 1945.

في ثمانينيات القرن المنصرم، كان في حلب رجل قانون متمكّن مهنياً، يطيب له أن يستدعيه أمين فرع حزب البعث في المدينة، ومن ثم رؤساء فروعها الأمنية الرئيسية، قبل الانتخابات، لكي يوعزوا إليه بأن يترشّح. وكان يفخر بذلك، سارداً وقائع حواراتٍ أجراها في غرف مكاتب الأمنيين كافة. وبعد أن يجري "انتخابه"، سيتبوأ منصباً قيادياً في المجلس، والذي على الرغم من هامشيته، إلا أن لعنوانه وقعا لدى من يجهل طبيعة المسرحية، خصوصاً من الأجانب. وكان القانوني مشهوراً بمداخلاته التي كانت تصدح بها صالونات حلب أكثر بكثير مما كانت تسمعها جدران قاعة المجلس. وكان يخال لسامعه بأنه في حضرة جورج كليمنصو أو ونستون تشرشل في قاعات باريس أو لندن. كان هذا القانوني، رحمه الله، ممثلاً محترفاً عند سرده في حلب ما يقوم بأدائه، ممثلا هاويا وهامشيا على خشبة المجلس في دمشق، إن أتيح له أن يصعد إليها. وكان من الممكن، وبسهولة شديدة، أن يرمي مستمعوه ثلاثة أرباع المحكيات في سلة القمامة، ويحتفظون بربعها، مع تشكيك كبير في تفاصيلها. وجاءت إحدى الدورات التشريعية، ودخل الرجل في دائرة مكرّرة من الاستدعاءات والدعوات إلى الترشيح، وكان حينها قد هرم، وأراد الانسحاب من المسرح، إلا أن إصرار "القيادة" كان أقوى من رفضه، كما كان يُحب أن يذكر، وبالتالي ترشّح للمرّة الرابعة، ليخسر بطريقة مذلة.

وضح لدى العارفين أن الإصرار على ترشيح القيادة شخصا ليخسر في انتخابات "مجلس الشعب" ليس إلا جزءاً من المسرحية

يخال لغير العارفين بفلسفة المؤسسة الأمنوقراطية السورية أن خسارته، وهو ليس إلا مثالا، ناجمةٌ عن فشله في تقديم برنامج مقنع، أو لعجزه عن القيام بحملة مؤثرة. أما العارفون، وهم كثر، فقد وضح لديهم أن الإصرار على ترشيح القيادة له ليخسر بهذه الطريقة ليس إلا جزءاً من المسرحية، وهو الأكثر سوءاً، يتمكّن فيه المخرج من سحق الممثل الكومبارس كصرصار مزعج، ورميه من على الخشبة، ليقع بين أقدام الجمهور الشامت، الذي سيتابع عملية الإهانة، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ومتابعةً للمسرحية الانتخابية، جرت عملية الاقتراع قبل أيام، لانتخاب مجلس جديد، توقع القاصي والداني بأن يحفل بأثرياء الحرب وأمرائها وأزلامها، كما برموز عشائرية ودينية، كما جرت عليه العادة. وتقدّم للترشح، بإيعازات وموافقات أمنية، أتباع للمستبد ومريدوه ومطبّلوه، معتبرين أنهم سيحظون بالمقعد ثمناً لما قدّموه من طاعة ومن خدمات، ضمن دورهم الهامشي المستدام. وكما عادة الأنظمة التي يطيب لها إذلال الناس، مهما كانوا ذليلين أصلاً، استطاعت الأمنوقراطية أن تفسح المجال بالمنافسة الشكلية بين أنواع مختلفة من الأذلّاء، لينتصر من تراه الأكفأ، في هذه المرحلة، في أن يكون مطيةً وديعة، مهما كان يحمل من أدوار جرمية سابقة ولاحقة على اختياره.

خرجت النتائج من دون مفاجآت، إلا لمن ظن من الممثلين الكومبارس بأن المخرج أراد له أن يبقى على الخشبة، في حين قرّر المخرج، وبوجود هامشيين جدد أكثر انغماساً في مؤسسات الفساد والإفساد، أن يزيح من تم استهلاكهم ليأتي بأصنافٍ جديدة، تحمل في جعبتها إحباطاً أكبر لمن أمل يوماً، بسذاجةٍ، أن يبدأ مسار إصلاح ما في هذه البلاد.

 

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا