يُلاحظ المارّة في شارعي عمر المختار والجلاء، الأبرز في قطاع غزة، عربة المهندس التي تجول يومياً فيهما. تبدو لافتة للأنظار، وقد وضع فيها عرانيس الذرة في شكل عمودي، واختار أن يتجوّل في عربته، واضعاً الأغنيات أحياناً، إضافة إلى شعار المهندس ورقم هاتفه، الأمر الذي يثير فضول الناس. يوقفونه ويبدأون بطرح الأسئلة عليه، لمعرفة ما إذا كان مهندساً بالفعل، وقد دفعته ظروفه الاقتصادية إلى العمل بائعَ ذرة متجول.
حمدي لبد (28 عاماً) درس هندسة الكمبيوتر في جامعة غزة، والتحق بعدد من الدورات المهنية في البرمجة وصيانة أجهزة الكمبيوتر. وبعد تخرجه، افتتح في عام 2012 محلاً كبيراً اختار له اسم "عين الحاسوب" لبيع وشراء وصيانة أجهزة الحاسوب وغيرها من الأجهزة الإلكترونية.
وبعد فترة، أصبح معروفاً ويعمل جيداً. كان يشارك في مناقصات ويشتري الأجهزة المستعملة ويبيعها من جديد للمحال التجارية أو الناس. لكن بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، تأثر عمله ووجد نفسه يخسر، فقرر إغلاق المحل والبقاء في المنزل، على أمل أن تتحسن الظروف.
وعن تلك الفترة، يقول لبد لـ"العربي الجديد: "بعد إغلاق المحل في عام 2015، بقيت في المنزل نحو سنتين من دون عمل، ثم قررت البحث عن أية فرصة. عملت في بعض محال صيانة أجهزة الكمبيوتر، في مقابل بدل مادي قليل جداً، ولم تتجاوز يوميتي ستة دولارات. بعدها سئمت البحث، وشعرت بالذل بسبب عملي لدى البعض، ثم فكرت في العمل في أي شيء"، قائلاً إنه "لا عيب في العمل".
اختار لبد وضع بسطة عند أحد المفترقات المعروفة في القطاع لبيع الذرة. ووجد الكثير من المتخرجين الجامعيين يبيعون المشروبات الساخنة من خلال عربات تنتشر في العديد من المفترقات. في البداية، كان بيعه قليلاً، ثم تعرض للتهديد من بلدية غزة، ما اضطره إلى ترك مكانه أمام مفترق الغفري وسط شارع الجلاء، علماً أن المحال الموجودة على جانبي الطريق لم تكن تنزعج منه، بل كانوا متضامنين معه، لكونه عاطلاً من العمل، علماً أنه مهندس. وتكرّر الأمر، إلى أن قرر عدم ركن العربة في مكان ثابت والتجول فيها.
لم يجد إقبالاً من الزبائن، فعمد إلى تزيينها ووضع عرانيس الذرة بشكل عمودي، ووضع مكبراً للصوت وزيّنه بإضاءة ليلية للفت الأنظار. وبدأت أحواله المادية تتحسّن شيئاً فشيئاً. في بعض الأحيان، كان يحب أن يتحدث عن تخصصه وعن عمله السابق. إلا أن ذلك لا يدوم طويلاً، ويملّ من كثرة الأسئلة، فيبتسم للناس ويختصر الكلام، قائلاً إن حاله مثل حال كثيرين في المجتمع.
اعتاد نظام حياته والاستيقاظ باكراً لسلق الذرة، والانطلاق للعمل عند الثانية عصراً وحتى الحادية عشرة من مساء كل يوم. وكان يتنقل من مكان إلى آخر حتى لا يتعرض للمساءلة من بلدية غزة التي تمنع البسطات في الأماكن المزدحمة. وفي بعض الأحيان، إذا شعر بأن البيع قليل، يسير في عربته حتى شاطئ البحر، علّ دخله يتحسن.
أخيراً، شعر بالضيق بعدما تعرض لمضايقة من قبل أحد أفراد شرطة البلدية، الذي طلب منه مغادرة المكان حيث كان يركن عربته، ساخراً من الزينة الموضوعة عليها، فردّ لبد: "الرزق أصبح مضحكاً بالنسبة إليهم"، وتشاجر معه قبل أن يتدخل عناصر أخرى لفضّ الخلاف بينهما.
خلال تنقله بين الشوارع، صادف لبد عدداً من زملائه المهندسين الذين سبق أن تعاملوا معه. لا يُخفي أنه كان يشعر بالخجل في بعض اللحظات، إلا أنهم كانوا يشجعونه لأنه لم يستسلم للبقاء في المنزل، وظلوا ينادونه "باش مهندس"، حالهم حال زبائنه القدامى.
يعيش لبد في منزل متواضع. والدته مصابة بالسرطان، ووالده يعمل حارساً في أحد المباني. لديه ثلاثة أشقاء يعملون بالأجرة اليومية، بينما يتكفل هو بمصاريف علاج والدته التي تتوجه إلى القدس شهرياً لتلقي العلاج الكيميائي. وعلى الرغم من صعوبة حالته، يعود كل يوم إلى المنزل ويمازح والدته ويحاول نسيان همومه وأن يكون مرحاً طوال الوقت. لكنه لا يفكر في الهجرة على غرار الكثير من المتخرجين والعاملين على بسطات، ويسعى إلى الحصول على تمويل لإنشاء مشروع إلكتروني جديد والعودة إلى العمل في مجال صيانة أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات. وعلى الرغم من توقفه عن العمل في مجاله، إلا أنه تعلّم الكثير من المهارات في إصلاح الأجهزة وأنواعها، حتى الحديثة منها والأكثر تداولاً في السوق، من خلال اليوتيوب وغيره من المواقع التعليمية.